جريمة قتل الأقباط في سيناء وما تبعها من مشاهد مخزية لتهجير بعض الأسر القبطية من مدينة العريش إلى مدينة الإسماعيلية أعادت إلى الواجهة المصرية حقائق كبرى تعمل السلطوية الحاكمة بانتظام إما على تغييبها أو تزييفها.
أولا، مثلما فجرت كنيسة البطرسية في العاصمة القاهرة واستهدفت من قبل مواطنين أقباط في مناطق متفرقة تواصل الجماعات الإرهابية ارتكاب جرائم العنف الطائفي في مصر بوحشية وعدمية وازدراء للإنسانية لا تختلف أبدا عن جرائم داعش في العراق وسورية وليبيا. تعميم خرائط الدماء والأشلاء وتهجير المدنيين والدمار هو برنامجهم الثابت، والضحايا باستمرار هم "الأسهل" استباحة بالمعايير الأمنية من شيوخ ونساء وأطفال في العراق وسورية مرورا بفقراء العمال الوافدين من مصر في ليبيا إلى الأسر المسيحية في سيناء وضباط وجنود القوات المسلحة والشرطة في الكمائن الثابتة.
ثانيا، بعد سنوات من "الحرب على الإرهاب" لم تتمكن الأجهزة العسكرية والأمنية في مصر من بسط سيطرتها على سيناء وإعادة الاستقرار إلى ربوعها. عوضا عن ممارسة النقد الذاتي بشأن سياسات الأجهزة العسكرية والأمنية ونتائجها، يفرض باسم وطنية زائفة صمت مطبق يجرم فيما خص سيناء كل حديث باستثناء الإشادة ببطولات الجيش والشرطة والترحم على الشهداء منهم والشهداء من المدنيين.
الإشادة بالبطولات واجبة، والترحم على شهداء يقفون بين الجماعات الإرهابية وبين إحداث المزيد من القتل والدمار ضرورة. غير أن تقييم سياسات "الحرب على الإرهاب" وقراءة مقومات النجاح والفشل المحيطة بها وفتح الفضاء العام لنقاش موضوعي حول البدائل الممكنة جميعها تمثل أولويات حقيقية للمواطن والمجتمع والدولة في مصر وتنهض حين تحققها دليلا على وطنية واعية. تتورط الأجهزة العسكرية والأمنية وهي تواجه الجماعات الإرهابية في انتهاكات ممنهجة لحقوق الإنسان، تارة بتهجير مجموعات سكانية كبيرة بعيدا عن مواطنها وأخرى بالاختفاء القسري وثالثة بالقتل خارج القانون ورابعة بالعنف المفرط. وترتب هذه الانتهاكات الكارثية لحقوق وحريات السيناويين، ومعها الإهمال التنموي لسيناء ولحقوق أهلها الاقتصادية والاجتماعية، حضور بيئة مجتمعية غير مستقرة وثائرة (على النحو الذي دللت عليه الدعوة إلى العصيان المدني التي انتشرت بين عوائل العريش بعد تورط الأمن في قتل خارج القانون لعدد من أبنائهم) وبكل تأكيد قابلة للعنف إن لم تكن حاضنة له.
اليوم، لم يعد صمت المواطن بشأن سيناء ولا امتناع المجتمع عن المطالبة العلنية بتقييم موضوعي لتفاصيل ونتائج سياسات الحرب على الإرهاب ولا استمرار الأجهزة العسكرية والأمنية على نهجها الراهن دون تغيير سوى دلائل بينة على عجزنا الجماعي عن تحمل مسؤولياتنا وعلى إننا ماضون للأسف إلى كارثة محققة في سيناء.
ثالثا، ليست استباحة الجماعات الإرهابية وقوى العنف والتطرف والطائفية للأقباط بجريمة حديثة العهد في مصر، ولا هي جريمة نادرة الوقوع. بل أن المشاهد المخزية لتهجير الأسر القبطية بعيدا عن سيناء تتكرر في سياقات أصغر في مناطق تمتد من الصعيد إلى ريف مدينة الإسكندرية. هنا تتورط مجموعات من المتطرفين والطائفيين في عنف ضد أسر قبطية تهجر بعيدا عن مواطنها، ويفرض عليها التخلي عن مصادر رزقهم.
كل هذا في سياقات جنون واضطهاد خالصين تخرج بهما علينا "مجالس وجلسات عرفية" تروم مصادرة حق الناس في الاختيار الحر في الحياة الشخصية، وتجرم باسم تدين زائف وادعاءات أخلاقية أكثر زيفا علاقات وروابط إنسانية ليس لأحد أن يجرمها. سياقات تشيننا كمواطنين منتمين بحسابات الهوية الدينية للأغلبية المسلمة، وتشين المجتمع بكامله الذي يرتضي الجنون والاضطهاد. وتشين الدولة التي جرت العادة البائسة على أن تقف الأجهزة العسكرية والأمنية وأجهزة إنفاذ القانون الأخرى مستسلمة لجنون واضطهاد للمجالس والجلسات العرفية، وعاجزة عن صون حقوق وحريات الأقباط وفي صدارتها الحق في الحياة الآمنة. فيقضى دون القضاء وضد القانون بنفي ذاك الشاب القبطي بعيدا وبتهجير أسرته وإجبارها على بيع مصادر رزقها، وتمر جرائم العنف الطائفي دون مساءلة ومحاسبة وعدالة ناجزة.
لذلك ليس في التجاء الأسر القبطية إلى الكنائس لتهجيرهم من سيناء إلى أماكن "آمان نسبي" غير إقرار مخزي بعجز الدولة وأجهزتها عن حمايتهم. وليس في تحرك أجهزة الدولة المضطلعة بالخدمات المدنية (الإسكان والإعاشة والرعاية الصحية) للمساعدة في "عملية التهجير وتسهيلها" سوى اعتراف كارثي بعجز أجهزة إنفاذ القانون عن صون حقوق وحريات الأقباط وتمكينهم من الحياة الآمنة في مواطنهم. وليس في غياب الاحتجاجات الشعبية على قتل وتهجير الأقباط وفي صمت الحراك الشبابي والطلابي والنقابي على الجرائم المرتكبة ضد مواطنين مصريين في مقابل الاحتجاجات الواسعة تحت يافطات الوطنية وطبولها بشأن اتفاقية تيران وصنافير، ليس فيه غير دليل فاضح على عدم اكتراثنا كمواطنين بجرائم العنف والاضطهاد التي يتعرض لها بعضنا وبتجاهلنا لمصاب مواطنين تنتهك حقوقهم وحرياتهم وهم أحق بالاحتجاج والتحرك دفاعا عنهم وصونا لمواطنة تتحرر من التطرف والطائفية والتمييز.
مواطنون يحتجون تحت يافطات الوطنية وطبولها ويتخاذلون عن حمل لواء الدفاع عن حقوق وحريات ضحايا الإرهاب والعنف والاضطهاد والتطرف والتمييز بين ظهرانيهم هم مواطنون لن يتمكنوا في أي وقت قريب من كبح جماح السلطوية الحاكمة وكف يدها عن الظلم.
استفيقوا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.