يحكى أن: "تاجراً يهودياً محلياً يدعى كوهين نُهب هو واثنان من التجار اليهود من قِبل البربر، ولقي رفيقا كوهين مصرعهما، وطلب كوهين المساعدة الفرنسية لتعويض الأضرار التي لحقت به، إلا أن المغيرين كانوا ينتمون إلى قبيلة أعلنت العصيان ضد الحكم الاستعماري الفرنسي، وأخبر أن عليه أن يتدبر أمره بنفسه، وحشد كوهين، الذي دخل اتفاقية تجارية مع أحد شيوخ البربر، الحلفاء فقاموا على الفور باحتجاز قطعان الغنم التي تخص القبيلة التي ينتمي إليها اللصوص، مما اضطر زعماء القبيلة إلى الدخول في مفاوضات مع القائمين على حماية كوهين، وحصل على تعويض قدره 500 رأس من الغنم، إلا أن قائد الفصيل العسكري الفرنسي ارتاب في تحالف كوهين مع البربر المتمردين، فزج به في السجن وصادر أغنامه".
تتلخص فكرة "الشرعية" في سيادة قبول عام في محيط المحكومين بأهلية الحاكم وأحقيته في أن يمارس السلطة، حتى وإن لم يرضوا دائماً عن سياساته أو قراراته، وهذه الفكرة نشأت في إطار تقييم النظم السياسية الداخلية، إلا أنها امتدت لاحقاً لتقييم النظم الإقليمية الدولية.
ويمكن القول إن مستقبل أي نظام إقليمي واستقراره يرتبط بشرطين أساسيين، هذان الشرطان هما "الشرعية والفاعلية"، وفيما يأتي معالجة لمسألة "الشرعية"، ومن ذلك نتناول مسألة "الفاعلية" مع إيضاح علاقة "عملية التحديث" بالثقافة التأويلية ودورها في تحديد مسارات هذين الشرطين، من منظور التفسير الأنثروبولوجي للقصة المشار إليها أعلاه.
إن مفهوم "الشرعية" في العلاقات الدولية يعني أن الشرعية في النظام الإقليمي هي المدى الذي يذهب إليه أعضاء النظام في شعورهم بالانتماء إلى هذا النظام، واستعدادهم للتضحية في سبيل حماية مضمونه وقيمه ورموزه وحيويته، وتتولد قوة الانتماء إلى النظام ككل على تدعيم هذا الانتماء والمحافظة على ولاء أطرافه، وإصراره على عدم السماح لعضو أو عدد من الأعضاء، بالإخلال بقواعد السلوك العامة والمبادئ التي تقوم عليها، وتنهار الشرعية حين يسيطر طرف واحد على تفاعلات النظام مع المبادئ الأساسية التي قام عليها النظام، أو حين يقوى حلف من الأحلاف إلى درجة تهدد أنماط التفاعلات، وتضر بالإمكانات الكلية وبمصالح الأعضاء أو الأحلاف الأخرى.
ولا جدال في أن الحيوية التي يتمتع بها النظام العربي استندت أساساً على درجة كبيرة من الشرعية القومية، إذا تخللت مراحل تطور النظام منذ نشأته الكثير من فترات الأزمات اجتازها وتجاوزها بفضل الشرعية، وفي الكثير من الفترات أمكن لنظام أن يحتفظ بقواعد عمله وأهدافه العامة، على الرغم من إصرار طرف أو أكثر على سلوك سياسة "المراجعة" السياسية،
ومحاولة تغيير أنماط التفاعلات بالتوسع أو التدخل المباشر على حساب الأطراف الأخرى، وعلى الرغم من محاولات البعض تغيير معادلات الإمكانات السياسية والاقتصادية وموازناتها، ومحاولات قوى خارجية التغلغل على داخل شبكة التفاعلات العربية وربطها بشبكات تفاعل خارجية، وفي بعض هذه المحاولات استخدم البعض القوة العسكرية لتنفيذ أغراضه، واستخدمت أطراف خارجية أساليب الاحتلال المباشر للأرض العربية، ومع ذلك ظلت شرعية النظام سائدة فوق كل هذه المحاولات واستمر النظام صامداً.
ولكن من الملاحظ أن هذه الشرعية بدأت تتعرض أخيراً لأنواع من الأزمات لم تواجه مثلها من قبل، ومن الممكن القول إن المرحلة الراهنة من تطور النظام ستكون المحك الحقيقي لقدرة النظام العربي وحيويته؛ لأنها المرحلة التي يؤكد فيها النظام الرضا العام أو ينتفي عنه هذا الرضا، فإذا انتفى الرضا العام دخل النظام مرحلة تحلل، قد يشهد خلالها انهياره التدريجي إذا ما تم التعامل مع المعيار المرجعي لأنماط "فيبر" الثلاثة (التقاليد – الزعامة الملهمة (الكاريزما) – العقلانية القانونية)، وهو أسلوب إدارة المجتمع – الدولة.
ومن المهم أن نلاحظ هنا أن "فيبر" عندما حدد أنماطه الثلاثة، إنما فعل ذلك في إطار فرضية قيام دولة – قومية مستقلة تسعى للهيمنة، وأنه كان يتناول أنماطاً مركبة، وإن ركز على معيار أسلوب إدارة المجتمع – الدولة، وعلى ذلك فإن الأمر يقتضي اقتراح أساس جديد لتنميط الأنظمة العربية المعاصرة، يكون أكثر ملاءمة لتحديد الفارق الجوهري بين مضامينها، ولتحديد شرعيتها بالتالي، وإذا كانت عملية اقتراح ذلك النمط تنطلق من فرضية أن الأمة العربية تمثل حالة دولة – أمة مجزأة وتخضع للسيطرة الخارجية بأنواعها كافة، فإنه يمكن أيضاً تقديم أنماط مركبة تتضمن أسلوب إدارة المجتمع – الدولة.
ومن هذه الناحية يمكن القول إن النمط المتكامل المتجه إلى "التحرر – الوحدة" يكتسب شرعية مؤكدة، بينما النمط القابع في "التبعية – التجزئة" – أياً كانت الشعارات والأيديولوجية المعلنة – بفقد شرعيته.
إن أكثر الشعارات ثورية لا تكتسب الشرعية؛ بل قد تزيد من فجوة التصديق وتزيد من تآكل الشرعية، إذا كانت مجرد عملية مسرحية لا تعكس تحركاً (ثقافياً – سياسياً – عسكرياً – اجتماعياً) متكاملاً وجاداً.
وتأتي في هذا الإطار قضية الفاعلية، فهي تحدث أثرها في التحليل بعد تحديد وجهة النمط (التحرر في مواجهة التبعية، والوحدة في مواجهة التجزئة)، ولكن، فإذا كان النمط مستقلاً ويسعى إلى التحرر والوحدة، ويشير إلى أن الشرعية تتنامى، فإن الفاعلية تحدد أيضاً في هذا الحال سرعة التقدم وانتظامه إلى حد كبير.
وقد ينهزم نظام، رغم شرعيته المؤكدة، إذا أدار صراعاته بفاعلية منخفضة، وقد يطول عمر نظام عدداً من السنوات، بينما هو فاقد لكل مقومات الشرعية، إذا كانت قيادته تمتلك فاعلية عالية، ولذلك فمن المهم أن ندرك أن الشرعية ليست شيئاً حدياً، يخضع لثنائية الوجود المطلق من عدمه، ولكن الأكثر دقة أنها عملية تطورية متدرجة، بمعنى أنها يمكن أن توجد بدرجات متفاوتة، قابلة للنمو أو التضاؤل، فكثير من مجموعات النخبة الحاكمة قد تستولي على السلطة من دون سند من الشرعية، ولكنها بمرور الوقت تكتسب شرعيتها، أي قبول المحكومين (وليس مجرد إذعانهم) لأهليتها وأحقيتها لأن تحكم، والعكس صحيح.
ومن هنا تحاول كل الأنظمة الحاكمة – بصرف النظر عن كيفية وصولها إلى السلطة – أن تكرس شرعيتها إن بدأت بمثل هذه الشرعية، أو أن تبني عليها شرعيتها إن كانت قد بدأت من دونها.
ويمكن القول إن من أهم وسائل بناء وتكريس "الشرعية" هي "الفاعلية" في إدارة شؤون المجتمع، وفي تحقيق أهدافه، وفي تجسيم قيمه ومثله العليا، ومن هنا يلاحظ أن الفاعلية، في حد ذاتها، توفر قدراً من الاستقرار السياسي والاجتماعي، وكل منهما تؤثر في الأخرى، فإن مستويات الاستقرار المتحققة تعكس نفسها على درجات الشرعية وإمكانات الفاعلية، وفضلاً عن ذلك تؤكد الخبرة التاريخية المقارنة أن مفهوم المحكومين لكل من "الشرعية" و"الفاعلية"، وبالتالي "الاستقرار" هو في حد ذاته متغير.
وعلى الرغم من ذلك، فإننا قد نجد أن تغير المصدر المقبول للشرعية في نظر المحكومين يرتبط بعوامل كثيرة اجتماعية، اقتصادية، وقيمية، وفلسفية، والشيء نفسه يصدق بالنسبة إلى مفهوم "الفاعلية"، فما يتوقعه المحكومون من السلطة قد يضيق إلى حدود دنيا (مثل حفظ النظام والدفاع عن الحدود ضد الأخطار الخارجية)، وقد يتسع إلى حدود قصوى (تشمل توفير الحاجات الأساسية وتنمية الاقتصاد، وتحقيق الطموحات القومية والحضارية).
وعلى ضوء ما سبق، وفي إطار العلاقة بين الشرعية الوطنية.. القومية، يمكن النظر فيما يتوقعه الناس، أو ما قد يوحي إليهم بتوقعه، أدى إلى ظهور متغير جديد، خلال القرنين الأخيرين، يتداخل مع كل من الشرعية والفاعلية، وهو الأيديولوجية بالمعنى المباشر للكلمة، ومن ذلك، فقد خلص "أيستون" إلى اعتبار "الأيديولوجية" مصدراً مستقلاً للشرعية فالنظام الحاكم يستمد شرعيته من أيديولوجية واعدة، يتوجه بها إلى قطاعات أو طبقات مهمة في المجتمع، بل إن مجموعات النخبة البديلة، أو قوى المعارضة خارج السلطة، في كثير من دول العالم الثالث، قد تروج لأيديولوجية معينة تشكك في شرعية النظام القائم – من ناحية، وتعد بفاعلية أكبر وأوسع – من ناحية أخرى، بل لقد ذهب "هدسون" إلى أن الأيديولوجية تكاد تكون هي مصدر الشرعية الوحيد للكثير من أنظمة الحكم العربية التي تسمى "التقدمية" وهي النظم التي قامت أساساً على أكتاف العسكريين.
وعند دراسة تأثير عمليات التحديث في المجتمعات العربية وعلاقته بمفاهيم الشرعية والفاعلية، فقد يتضح دور عامل التدخل الاستعماري في حصول تحولات وتغيرات اجتماعية في هذه المجتمعات؛ لأن الظاهرة الاستعمارية هي المدخل الأساسي لفهم كل السيرورات التحديثية، وعند إعطاء "نموذج المجتمع القروي المغربي"، لا يمكن إغفال التأثير الذي مارسه الاستعمار في تفكيك بنيات اجتماعية تقليدية وتشكيل بنيات حديثة، أو في التركيب بين التقليدي والحديث حسب رهاناته (الاستعمار) الاقتصادية والسياسية والثقافية، لا تنفصل دراسة مسألة "التحديث" في مجتمعات غير متقدمة عن دراسة ظاهرة الاستعمار، والاستعمار الجديد كظاهرة اكتسحت حتى البلدان التي لم تخضع لتدخل عسكري مباشر،
ويظهر تحليل بعض الباحثين السوسيولوجيين أن التحديث في العالم القروي يمكن دراسته، تاريخياً، في الحالة المغربية ليس انطلاقاً من حدث التدخل الاستعماري سنة 1912، بل قبل ذلك، أي منذ اتفاقية مدريد في 3 يوليو/تموز 1880م، التي منحت في فصلها الثاني للأوروبيين حق الاستيلاء على أراضٍ مغربية، كان هذا الحدث تمهيداً لترسيخ نظام قانوني يعطي الشرعية للمستعمر للتملك العقاري للأراضي الجماعية أو أراضي الحبوس، وذلك بخلق نظام تشريعي يخدم مصالح المستعمرين بحماية للسلطات الكولونيالية، ويمهد لرسملة الفلاحة في المغرب.
وعلى هذا الأساس، عند دراسة الظواهر الاجتماعية وعلاقتها بدراسة التدخل الاستعماري كعامل "تحديث" للمجتمع المغربي بشكل عام، فقد يمكن الإشارة إلى أهمية "التأويلات الثقافية: The Interpretation of Cultures" في تحليل جوانب هاتين الدراستين، لا سيما تلك الظواهر الاجتماعية، التي ظهرت في مرحلة ما بعد الاستعمار، ونجد تفسيرها في المرحلة الاستعمارية، كما أن الدولة الوطنية حاولت إثبات مشروعيتها من خلال ضمان استمرار الهياكل القانونية التي أنتجها الاستعمار بالرهان على تطوير بنيات رأسمالية.
وفي هذا الصدد، يعلق كلفيود جيرتز – Clifford Geertz: "بأنه يتعين على الإثنوغرافي أن يختار طريقه عبر "البنى المتراكمة من الاستدلال والمعنى الضمني"، ويمضي ليخبرنا بقصة توضيحية – المشار إليها أعلاه، وقعت في المغرب في عام 1912، عندما كانت السيطرة الفرنسية على بعض مناطق البربر غير مؤكدة، وكان التجار لا يزالون يضطرون للاعتماد (على نحو غير رسمي وفي واقع غير قانوني أيضاً) على الاتفاقيات التجارية التقليدية مع كل شيخ.
وخلاصة القصة تقودنا إلى "خطاب اجتماعي يؤجى بألسنة متعددة"، مفادها: "دخل كوهين في اتفاقية تجارية – واستجابة للطلب تحدى الشيخ قبيلة المعتدي، وتحملاً للمسؤولية دفعت قبيلة المعتدي التعويض – ورغبه في التوضيح للشيوخ والتجار على حد سواء من له الحكم هنا الآن، لوح الفرنسيون باليد الاستعمارية"، وهكذا تخدم أطروحة فوكوياما، إذاً، في عملية النقد الجاد لمشاريع الإصلاح الداخلية التي تشغل كل الحكومات العربية هذه الأيام، أنها أطروحة "تدعو إلى إصلاح ينبع من قرار سياسي أنثروبولوجي يفوق عمقاً وجوهراً الإصلاح الاقتصادي المحض"، وكما علق جيرتز أيضاً بأن "القانون لا يحدد السلوك"، ومن خلال ذلك يغطي جيرتز النظم الثلاثة المتعلقة بالبنية الاجتماعية وبالثقافة، وبالشخصية.
* نقلاً عن موقع إضاءات، واتساقاً مع تدوينة سابقة "سوسيولوجيا التحالفات الدولية"، وتفاعلاً مع تدوينة (مقال) الأستاذ/ وضاح خنفر (رئيس منتدى الشرق)، "الديمقراطية لا تزال هي الإجابة".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.