ليست مشكلة مصر في طبيعة السياسات الإقصائية والكارثية المتبعة منذ يونيو/حزيران 2013 فقط، فأصحاب هذه السياسات لهم سياسة محددة ومدروسة جيداً، وهي إقامة دولة الصوت الواحد التي تتحكم فيها أجهزة أمنية محددة، وتُقمع فيها الحريات والحقوق بحجج تدعي الحفاظ على الاستقرار والدولة، هذا النمط من الحكم تسبب في كوارث كثيرة قبل أن يسقط في كل أنحاء الأرض، وما تبقى منه إلا عدد صغير جداً من الحالات.
طبيعة هذه السياسات الكارثية صارت واضحة وضوح الشمس بعد الممارسات والسياسات المتبعة منذ أكثر من ثلاث سنوات وبعد التسريبات التي تظهر بين الحين والآخر، وكان آخرها مراجعة اتفاقية بيع الجزيرتين مع الصهاينة، والتعهد بعدم اعتماد أي نص إلا بالعودة لهم.
العدو الأول للثورة المضادة ليس الإرهاب ولا حتى تردي الأوضاع الاقتصادية، فهذه الأمور تستخدم في تقوية الخطاب السياسي للنظام، وتضمن وجود أجندة سياسية وأمنية واقتصادية يعيش من خلالها النظام لا لمعالجة التحديات المصاحبة لها وإنما للحفاظ على مبررات هذه السياسة وبقاء القائمين عليها لتحقيق دولة الصوت الواحد الأمنية تلك.
العدو الأول للثورة المضادة هو كل مَن يفكر في معارضة أو إيقاف دولة الصوت الواحد الأمنية، ويكشف طبيعة سياساتها الكارثية، ولا ينجر إلى معارك فرعية أو هامشية في ساحات الصراع العدمية التي تشعلها الثورة المضادة بهدف ملء المجال العام وإشغال الناس عن السبب الأول لكل الكوارث التي يعيشونها، وهو سيطرة مجموعة صغيرة على السلطة والثروة والإعلام والمجتمع.
العدو الأول للثورة المضادة هو كل مَن يدعو إلى وحدة الصف ويطرح بديلاً مؤسسياً قائماً على أساس إقامة دولة المؤسسات والقانون، والشفافية التي تتنافس فيها الأحزاب المختلفة أيديولوجياً وسياسياً وفكرياً، ضمن ضوابط وضمانات محددة تمنع الإقصاء أو الهيمنة أو العسكرة.
العدو الأول للثورة المضادة هو كل مَن يقف ضد حالة اليأس التي يروجها مثقفو النظام وأذرعه الإعلامية (ويرددها للأسف بعض المخلصين بلا تدقيق في وظائفها وتداعياتها).
أعود لأقول ليست مشكلة مصر في طبيعة السياسات الكارثية الحالية فقط، لكن المشكلة الأساسية هي في ضعف النخب الوطنية ووجهاء المجتمع وقادة الرأي العام وأساتذة الجامعات والمثقفين في الداخل والخارج، وانسحاق الكثيرين منهم أمام الرواية الرسمية التي شوهت الثورة ومطالبها العادلة، واستضعفت الجماهير وقدراتها على المقاومة والتغيير، وأغرقت المجال العام في مصر بقضايا تافهة أو هامشية.
هناك مثلاً مسألة التغيير الوزاري الذي يتم كل بضعة شهور، وكأن الحل في تغيير وزير هنا أو هنا، أو توزير شخص عبقري في تخصص ما، مع التجاهل التام لمجمل المنظومة المهترئة، وهناك مسألة التركيز على قضايا فساد صغيرة في الوقت الذي تقنن فيه ممارسات احتكارية وتصدر أحكام براءة في حق مختلسي المال العام وقتلة الثوار، ويتم تجاهل قضايا فساد كبرى وصفقات سلاح سرية وغير ذلك، هذا ناهيك عن تسليط الفضائيات على الشعب من أجل نشر الأكاذيب والفتن، وإثارة صراعات بينية داخل كل قطاع في الدولة، وغير ذلك.
الأنظمة المستبدة لا تتخلى عن الحكم من تلقاء نفسها فقوة القمع والإقصاء والفساد لا يوقفها إلا قوة مضادة لها، تتمتع بقاعدة شعبية رافضة، وقيادة وطليعة واعية، وبرنامج سياسي مدروس.
وهذه الأنظمة لا يُجدي معها السكوت أو الانزواء أو زرع اليأس أو تصور أن ترك الأمور للزمن كفيل بمعالجتها فهذه الأنظمة بطبيعتها تتغول متى وجدت المجال لهذا، وهي تبدأ بخصومها الواضحين ثم بحلفائها، وفي النهاية يكون الشعب كله ضحية لها.
ليس مطلوباً ممن يريدون إنقاذ مصر -بعد الاعتذارات المتبادلة عن أخطاء الماضي- إلا الانضواء تحت رابطة جديدة تتفق فقط على المشترك بينهم، وهو مواجهة طبيعة النظام القمعية والإقصائية ووضع برنامج سياسي لتحقيق انتقال حقيقي للسلطة نحو نظام يقوم على حكم القانون والمؤسسات والشفافية والرقابة والعدالة، ويبتعد تماماً عن منطق التنافس الحزبي أثناء مرحلة الانتقال والبناء، ويضمن عدم التعدي على سلطة الشعب واختياراته في المستقبل. رابطة لها برنامج بأهداف ووسائل محددة، وتدفع بها قيادة ونخب سياسية قادرة على الفعل وتغيير المعادلة السياسية القائمة ودفع النظام دفعاً إما إلى الاستجابة أو التنحي.
ليس مطلوباً من أحد التخلي عن قناعاته الفكرية والسياسية إرضاءً أو تنازلاً للآخر، وليس مطلوباً من أحد تقديم حلول تفصيلية وإبداعية لمشكلات التعليم أو الصحة أو المواصلات أو الفقر، فهذه الحلول كلها تذهب أدراج الرياح مع استحالة الحلول الجزئية في ظل الوضع الراهن، فضلاً عن أن هذه الحلول تشغل أصحابها عن المشكلة الأم التي يجب أن تحظى بالأولوية، والتي بدون معالجتها لن تعالج المشكلات الأخرى.
أكثر من ثلاث سنوات مرت ومصر بها قوة فاعلة واحدة تهدم أسس الدولة وتقسم المجتمع وتخترق المؤسسات، بل وتفرط في الأرض والثروات الطبيعية وتنسج تحالفات إقليمية ودولية كارثية، يتم كل هذا في ظل فشل ذريع للقوى السياسية الوطنية في الداخل والخارج وعلى اختلاف انتماءاتها السياسية والفكرية.
لكن، وفي ظل عالم السماوات المفتوحة، هناك شيء إيجابي واحد هو استمرار قطاعات كبيرة من الشباب في فضح غايات النظام وممارساته وصفقاته وأشخاصه، وفي كشف حجم الظلم الذي تتعرض له الغالبية العظمى من الشعب. هذه إيجابية كبرى وستتحول إلى طاقة فعل قريباً، المهم أن يبقى الأمل ويستمر النضال بكل الطرق السلمية الممكنة ويستمر فضح كل الروايات التي تبرر الإقصاء وترسخ العجز وتزرع اليأس، والله أعلم.
نُشرت في مصر العربية بتاريخ 17 يناير/كانون الثاني 2017.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.