عندما كانت الأيديولوجيات أقل أهمية: العدالة الانتقالية تكشف الوجه الآخر للديكتاتورية التونسية

تكمن إحدى الخصائص الاستثنائية للعدالة الانتقالية التونسية في اعتبارها الفساد الاقتصادي شكلاً من أشكال الانتهاكات التي عاناها التونسيون في ظل الديكتاتورية، واستخدمتها الديكتاتورية لإخراس المعارضة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/22 الساعة 11:52 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/22 الساعة 11:52 بتوقيت غرينتش

نظامٌ مُختل

في السادس والعشرين من يناير/كانون الثاني 2017، أدلى 6 مواطنين تونسيين بشهادتهم أمام هيئة الحقيقة والكرامة (هيئة حكومية مستقلة مهمتها الإشراف على مسار العدالة الانتقالية بتونس بعد الثورة التونسية عام 2011) في جلسة استماعٍ علنية حول انتهاكات حقوق الإنسان إبَّان نظام الحبيب بورقيبة.

وصادف التاريخ الرمزي للجلسة الذكرى الـ39 لـ"الخميس الأسود"، حينما نظَّم الاتحاد العام التونسي للشُغل احتجاجاً في عموم البلاد، وهو الاحتجاج الذي قُمِع بعنفٍ شديد نتج عنه أكثر من 100 قتيل، وجُرِحَ مئاتٌ آخرون بحسب مصادر غير رسمية، بالإضافة إلى اعتقالاتٍ كثيرة في صفوف قادة الاتحاد العام للشُغل.

وخلال شهر يناير، أحيا التونسيون ذكرى 3 أحداث رئيسية في تاريخهم المعاصر: "أحداث الخبز"، التي حدثت بين ديسمبر/كانون الأول 1983 ويناير 1984، والذكرى السنوية السادسة للثورة التونسية، وأحداث "الخميس الأسود" لعام 1978.

شكَّلت تلك الأحداث نقطة تحوُّل في التاريخ التونسي، والذي يحاول استحضاره حالياً من شهدوا تلك الأحداث: أعضاء النقابات التجارية، والطلاب، والنشطاء السياسيون. وأذِنت تلك الأحداث بنهاية النظامين الاستبداديين للرئيسين التونسيين بورقيبة وبن علي على الترتيب، وساهمت في بروز مجتمعٍ مدني ونقاباتٍ أكثر انخراطاً في السياسة منذ ذلك الحين.

تكمن إحدى الخصائص الاستثنائية للعدالة الانتقالية التونسية في اعتبارها الفساد الاقتصادي شكلاً من أشكال الانتهاكات التي عاناها التونسيون في ظل الديكتاتورية، واستخدمتها الديكتاتورية لإخراس المعارضة.

كشفت جلسات هيئة الحقيقة والكرامة العلنية هذه للرأي العام التونسي جانباً مُظلِماً آخر للديكتاتورية استخدمت فيه الفساد الاقتصادي المُمنهَج كأداةٍ لتكريس النظام الاستبدادي، وذلك بإبقاء اقتصاد البلاد مُقيَّداً وعالِقاً في حلقةٍ مُفرَغة من المحسوبية والعمالة.

كان أحمد بن مصطفى هو السفير التونسي لدى الإمارات العربية المتحدة بين عامي 2004 و2006. وفي 14 يناير 2017، أدلى بشهادته حول الفساد المُستشري لنظام بن علي؛ إذ بقي النظام الاقتصادي الموروث من عهد بورقيبة مُعتمِداً اعتماداً كبيراً على المُستعمِر السابق فرنسا ونظامها الاقتصادي، وعلى الاتحاد الأوروبي وسياساته التي أملاها على تونس منذ عام 1969.

وجاءت شهادة بن مصطفى متسقةً مع شهادة غيلبرت النقاش، وهو ناشطٌ سياسي يساري تونسي (من أصلٍ يهودي)، يبلغ 76 عاماً، وكان عضواً في الحركة الطلابية التروتسكية "Perspectives" في الستينات، وسُجِن لـ"أنشطته المُعارِضة ضد نظام بورقيبة" بين عامي 1968 و1979. استنكر هو الآخر حالة الاعتماد التونسي شبه الكامل على فرنسا من الناحية الاقتصادية في ظل "سياسة التحرير" التي اتَّبعها رئيس وزراء بورقيبة، الهادي نويرة. ووصل بن مصطفى إلى حد إلقاء مسؤولية تخلُّف الاقتصاد التونسي عن بلدانٍ أخرى بالمنطقة، مثل المغرب، على السياسة التي بدأت في عهد بورقيبة واستمرت في عهد بن علي.

أعاد بن مصطفى التأكيد، خلال شهادته في جلسة الاستماع العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة، على أنَّ "ما يهم هو استقلال تونس اقتصادياً عن فرنسا"، مشدِّداً على "العلاقة غير المتكافئة مع الجيران الشماليين نتيجة الانفتاح غير المدروس وغير العادل الذي بدأ تجاه أوروبا عام 1969". واستنكر كذلك وجود "دبلوماسية موازية أدارت زُمرة بن علي بموجبها شبكةً داخل عائلة الطرابلسي". وبحسب بن مصطفى، فإنَّ ذلك أفضى أيضاً إلى الفساد المُستفحِل في تونس خلال حكم نظام بن علي، وإلى إضعاف الدولة ونموذجها الاقتصادي.

وعلى نحوٍ مغاير، استنكر النقاش الخيارات الاقتصادية السيئة وغير الفعَّالة لنظام بورقيبة، واستنكر كذلك فشل التجربة التعاضدية للوزير التونسي السابق أحمد بن صالح في الستينات، والتي جعلت الاقتصاد التونسي هشَّاً، بينما أبقت على خضوع تونس لوصاية فرنسا. وأشار كلٌ من بن مصطفى والنقاش إلى ضرورة معرفة التونسيين للحقيقة بشأن إدارة الأنظمة السابقة لاقتصاد البلاد.

وذكر بن مصطفى خلال شهادته أنَّه "لا استقلال اقتصادياً حقيقياً قد تحقَّق في تونس".

وكشفت العدالة الانتقالية أيضاً الجرائم المالية لنظام بن علي. فوسط الجدل الذي أعقب "قانون المصالحة الوطنية"، وهو مشروع قانون للمصالحة الاقتصادية، جرى تبنَّيه في يوليو/تموز 2015، يمنح العفو للموظفين العموميين في الأعمال المرتبطة بالفساد وإساءة استغلال الأموال العامة، وأُلغِيَ القانون في أكتوبر/تشرين الأول 2016- كُشِفَ النقاب عن الدور الكبير الذي لعبته الأطراف الرئيسية التي اضَّطلعت بملف العدالة الانتقالية، ومن بينها هيئة الحقيقة والكرامة، في كشف تلك الجرائم (وذلك رغم أنَّ هيئة الحقيقة والكرامة أيضاً تُصر على اعتراف مرتكبي الجرائم بأفعالهم كشرطٍ مُسبق للمصالحة).

ووُضِعَت هيئة الحقيقة والكرامة أمام اختبارٍ صعب يتعلَّق بـ"عدم امتلاكها القوة الكافية لمقاومة" ما أشار إليه أنصارها بأنَّه "ترهيبٌ للجنة لتحجيم دورها وتشويه سمعتها ومحاولاتها كشف الحقيقة وتقديم الجُناة إلى العدالة". وأظهر الجدل الدائر حول سليم شيبوب، صهر بن علي الذي تقدَّم إلى هيئة الحقيقة والكرامة وأبدى استعداده للإدلاء بشهادته حول أية مخالفاتٍ ارتكبها، التوجُّه "الحذر" للهيئة في عملها كهيئةٍ للعدالة الانتقالية. وكانت حملة المجتمع المدني "مانيش مسامح"، أو (لستُ مُسامِحاً)، مُنتقِدة بشدة لمشروع القانون المثير للجدل، وكذلك لهيئة الحقيقة والكرامة.

"مهما فعلوا.. لا يمكن للحقيقة سوى أن تكون ثورية"

اكتشف التونسيون مدى تعقيد الماكينة الأمنية التي امتلكتها أنظمة بورقيبة وبن علي الاستبدادية لقمع الشعب. وفي الواقع، رسّخ الإسكات الممنهج لخصوم النظام السابق السياسيين على مختلف أيديولوجياتهم التحالف بين بعض هؤلاء الخصوم "ذوي الأيديولوجيات المختلفة ظاهرياً" في زمن الدكتاتورية. وكان اليساريون التونسيون، وبالأساس اليسار المتشدد (الشيوعيون)، والإسلاميون هدفاً دائماً لبطش جهاز الأمن القمعي التابع لوزارة الداخلية في عهدي بورقيبة وبن علي.

وبينما ذكر نقّاش في شهادته خلال جلسة الاستماع الأولى لهيئة الحقيقة والكرامة أنّ "الحقيقة ثورية"، فإنّ الحقيقة حُجبت عن التونسيين لأكثر من نصف قرن: إذ تلاعب بورقيبة وبن علي بالروايات التاريخية في تونس.

وفي كتابه "Cristal" (المنشور عام 1982، وأُعيد تحريره مجدداً عام 2011)، وصف نقاش الكتابة بأنَّها كانت "فِعلاً علاجياً" مارسه عندما كان مسجوناً في زنزانةٍ بسجن برج الرومي سيئ السمعة في مدينة بنزرت شمال تونس، ببيئةٍ جعلته "فريسةً لجنون الريبة والاضطهاد" حينما علم أنَّ قدره أصبح محتوماً عندما وُضع في الحبس الانفراديّ وغمره الشعور بالظلم.

كان هذا الكتاب هو الوصف الأدبي الأول للتعذيب الذي مارسه النظام التونسي. وما زال نقّاش، وهو ناشطٌ متحمّس من اليسار السياسي، "ضمير العامة" في نظر الكثير من التونسيين، واليساريين منهم بشكلٍ خاص، ولكنّه يحظى أيضاً باحترام الكثير من الإسلاميين، ويجعله هذا بالنسبة للبعض "شخصيةً يتّحد وراءها اليسار التونسي بأكمله".

وأُعيد النظر في الاعتقاد الشائع بأن الإسلاميين فقط هم من كانوا ضحايا الأنظمة السابقة بسبب الحرب القديمة على السلطة بين الإسلاميين والنظام، وأيضاً للدور المؤثر الذي لعبه الإخوان المسلمون في المنطقة تزامناً مع التحالف بين الإسلاميين من جهة وغير الإسلاميين من جهةٍ أخرى، ومن بينهم الشيوعيون، ويساريون آخرون كانوا أيضاً من ضحايا الجهاز الأمني للنظام واستخدامه التعذيب بهدف ترهيب وقمع معارضيه. وكانت أحداث الخبز عام 1984، ويوم الثلاثاء الأسود عام 1978، أحداثاً تعرّض فيها مفكّرو اليسار التونسي، والطلاب، وأفراد النقابات العمّالية لقمعٍ عنيف من جانب النظام. وكان يوجد بعض الضحايا من الإسلاميين بين صفوف المتظاهرين أيضاً.

وخلال فترة سجنهم، وجد الإسلاميون أنفسهم في محنة الاضطهاد نفسها مع أمثالهم من اليساريين. وألقت شهادة سامي براهيم، وهو أكاديمي وباحث تونسي سُجن في تسعينات القرن الماضي عندما كان طالباً بسبب "ميوله الإسلامية"، الضوء على العلاقة التي بناها هوّ ورفاقه الإسلاميون في السجن مع السجناء غير الإسلاميين.

تحمّل براهيم التعرّض للتعذيب بينما كان يُنقل من سجنٍ لآخر خلال فترة عقوبته التي امتدت 8 أعوام. واستعاد ذكرى قراءة مذكّرات غيلبرت نقّاش في السجن، "كريستال"، وأثرها عليه عندما كان لا يزال طالباً شاباً يتعرف على الحركة اليسارية التونسية، ويتعلم أيضاً عن فلسفة الوجود، والعدل، والمشاركة السياسية، والحرية تحت حكم نظامٍ استبدادي في كتاب نقّاش المكتوب "بمنطقٍ يشبه جان بول سارتر لكن بلهجةٍ تشبه ألبير كامو".

ما أظهرته لنا جلسات الاستماع العلنية أمام هيئة الحقيقة والكرامة، كان المدى الذي وصل إليه النظام السابق "في تزوير التاريخ التونسي"، واستخدامه حملاتٍ دعائية فعّالة كانت مهمتها التلاعب بالروايات التاريخية. وأصرّ كُلُ من أدلوا بشهادتهم في الجلسات المذكورة على ضرورة أن يعرف التونسيون حقيقة نظامي بورقيبة وبن علي لإجراء مصالحةٍ حقيقية بين الضحايا والجُناة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد