في صباح أحد الأيام كنتُ متوجهاً إلى مدرستي مع عائلتي في السيارة، كان الصباح يومها نضراً يملأ المرء بالتفاؤل والإيجابية والسكينة، ولم يعلم أحد أن أمراً ما سيحدث في ذلك اليوم سيغير ملامح المنطقة بشكل كبير.
وفي بداية الطريق وقبل الخروج من مدينة دير البلح باتجاه الطريق الساحلي إلى مدينة غزة، سمعنا دوي إطلاق نارٍ من رشاش كلاشنيكوف، كانت تلك الطلقات أولى رصاصات الحرب الأهلية بين فتح وحماس.
منذ ذلك اليوم، تغيرت حياة مليوني شخص خاصة بعد تضييق الحصار الإسرائيلي المُمنهج على القطاع بحجة استيلاء حماس عليه، مما جعل قطاع غزة بيئة مُسيّسة جداً؛ إذ إن جيلي في ذلك الوقت لم يعِش حياة طبيعية وكان علينا أن نفهم الكثير من الأحداث التي كانت تتخطى مستوانا العقلي لفهمه، ففي كثير من الأحيان كنتُ أعود إلى البيت بعد الدوام المدرسي ولا أجد الكهرباء في البيت، وكان يجب عليَّ الانتظار لمدة ساعاتٍ وساعاتٍ فقط ليتسنى لي أن أشاهد الأفلام المُفضلة لدي أو المباريات.
وفي كل مرة أثار ذلك اهتمامي في أن أسأل الأشخاص من حولي عن طبيعة ما يحدث ودائماً ما كانت الإجابات متعلقة بالسياسة وموضوعٍ معقد بعد موضوع، كقطع الكهرباء نتيجة الحصار الإسرائيلي نتيجة استيلاء حركة حماس على القطاع نتيجة الحرب الأهلية مع فتح والاقتتال الداخلي وتستمر الإجابة كسلسلة لا نهاية لها.
وفي السنوات التي تبعت، كنت أنا وأصدقائي وأفراد من العائلة دائماً ما نشاهد مرور قوات الجناح العسكري لحركة حماس، كتائب عز الدين القسام، في الشوارع في استعراض لقوتهم العسكرية، وما لاحظته خلال تلك العروض، هو الإقبال الكبير من قبل الشباب والأطفال في سنواتهم اليافعة لمشاهدة تلك العروض ولمُشاهدة الأسلحة التي كانت بحوزة الجنود، وهنا تكمن نقطة مهمة يجب الإشارة إليها، وهو وجوب التفريق بين الشباب الذي يشجع فصيلاً سياسياً بناء على تبنيهم للأيديولوجيا التي تتبعها الحركة والشباب الذي يريد الانضمام لديهم فقط؛ لأنه يحب مُشاهدة أنواع الأسلحة.
وتكمن هنا مشكلة كبيرة؛ إذ إن جميع الشباب والأطفال في ذلك السن اليافعة تربى في بيئة مدججة بالسلاح غير سليمة وغير صحية؛ إذ لا يخلو شارعٌ واحد في قطاع غزة دون وجود شخص يحمل سلاحاً، بالإضافة لاستعراض إسرائيل لقواتها الجوية في سماء القطاع، مما يجعل الشباب والأطفال منجذبين تجاه حمل السلاح دون وعي منهم عن عواقب أو نتائج ما يفعلون.
من هُنا، انفتح أمام الفصائل والحركات الفلسطينية أحد أكبر الأبواب لاستقبال واستقطاب أعداد كبيرة من الشباب للتجنيد وتحضيرهم وتدريبهم للمعارك، ولكن تكمن هناك الكثير من الأسباب والعوامل الأخرى التي تسهم في ضم الشباب لتلك الفصائل، وأهمها: خسارة شخصٍ لأحد أفراد عائلته بسبب العدوان من قِبل الاحتلال الإسرائيلي؛ إذ إن سياسات إسرائيل تسهم بشكل أكبر من أي عاملٍ آخر في تعنيف الشباب الفلسطيني.
وتتعدد أسباب أخرى مثل: البطالة، وعدم وجود الموارد التي تمكنه من إيجاد فرص أفضل أو تشجيع الأشخاص من حوله للانضمام لإحدى الفصائل؛ إذ إن هناك نسبة معينة من الشباب ينضم معظمهم إلى إحدى الفصائل الفلسطينية فقط بسبب استفادة أهله منها وتشجيعهم له على الانضمام لديها، وتتعدد الطرق الأخرى للتجنيد كاستدراج الشباب والمراهقين للانضمام للفصائل من خلال المرافق الدينية واستخدام أيديولوجيا دينية كأداة للتجنيد.
وتكمن مصالح الفصائل الفلسطينية في زيادة عدد منتسبيها لتقوية وجودها وتعزيز شرعيتها ضد الفصائل الأخرى، وبناء قاعدة دعم شعبية دون أي اعتبار تجاه مستقبل هذا الشباب أو العواقب التي تتبع وتنتج عن تجنيده.
إن الإقبال الكبير من قِبل الشباب للانضمام للفصائل الفلسطينية يسهم بشكل كبير وأساسي في زيادة الانقسام السياسي الفلسطيني، وفي زيادة تفكك الوحدة الوطنية والصفوف الفلسطينية، وهو أحد أهم الأسباب في فصل كل من غزة والضفة الغربية إلى كينونتين مختلفتين منفصلتين تماماً، بالإضافة إلى الممارسات والسياسات والتصريحات من كل من قيادتي فتح وحماس، مما أدى لتلك النتيجة المؤسفة.
ويجب رسم خطٍ عريضٍ بين المسؤولية التي تقع على عاتق الشعب والشباب، وعلى القيادات الفلسطينية، فإذا قارّنا حياة شابٍ فرنسي وشابٍ فلسطيني، فلا يمكن وصف حجم الاختلاف؛ إذ إن الشاب الفرنسي لديه فرصٌ كثيرة وأُفـق كبير واسع؛ لأن يبدع ويتميز ولديه الكثير من الموارد التي تسمح له بأن يحقق أهدافه وطموحاته، ولديه على الأقل حُرية التنقل في معظم بلدان أوروبا والعالم دون أن يتم إذلاله على المعابر، أما بالنسبة للشاب الفلسطيني خاصة في القطاع، فلا تتعدى حياته دائرة قُطرها ثلاثون ميلاً، وليس أمامه سوى خيارات محدودة جداً للترفيه عن نفسه، فإنه من الطبيعي جداً أن يلجأ الشباب الفلسطيني للانضمام للفصائل في محاولة بائسة منه في أن يجد معنى لحياته، وأن يفعل شيئاً لخمد الملل.
وتقع مسؤوليةٌ أكبر على القيادات الفلسطينية من كل الطيف السياسي الفلسطيني بالتنحي عن عروشهم وإجراء مُصالحة سياسية، ووضع مصلحة الشعب أولاً قبل مصلحتهم، وإجراء انتخاباتٍ ديمقراطية ووضع رؤية جديةٍ استراتيجية تجاه إنشاء دولة فلسطينية مسُتقلة؛ لأن الاستقلال يحتاج للإجماع السياسي والتمثيل الشرعي لنيات الشعب.
إن لم يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة في تنفيذ النقاط السابقة، وإذا استمرت الفصائل والقيادات الفلسطينية في ممارسة سياساتها التقليدية المُدمرة خاصة في ضوء التغييرات الأخيرة والحروب وعدم الاستقرار والذي دفع إلى انشغال دول الإقليم والعالم في قضاياهم، فقد يفت الأوان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.