عندما كنا صغاراً كنا نلعب كرة القدم في الشارع، حيث نصنع ملعباً وسط الشارع ونضع علاماتٍ تدل على مرمى كلِّ فريق، وبعد أن يختار كل كابتن فريقَه من صغار الحي، ولا يحق لأي فريق إضافة لاعب إلا من خلال استبداله بآخر، وهذا القانون ملزم، إلا أن البعض جعله مرناً؛ حيث ضمن قانون اللعبة لا يحق لأي لاعب النزول إلى أرض الملعب إلا بموافقة الكابتن، فيلجأ بعض أولئك اللاعبين إلى أسلوب فرضِ أنفسهم بالقوة، وقد يصل بهم الحال إلى تخريب اللعبة برمتها، إذا لم يُشرَكوا، فحاولَ البعضُ إضافة مرونةٍ جديدة إلى قوانين اللعبة، بجعل اللاعب ينزل مع الفريقِ المتأخر بهدف، أو المتقدم بهدف، هذا إنْ قبلَ هو بذلك، وانتظر دوره ولم يقل "ألعب لو أخرّب الملعب".
فرضُ هذا الشخص نفسَه بالقوة يُشبه إلى حدٍّ ما سياسةَ وأسلوب زعيم التيار الصدري في العراق، فعندما تجاهله الأميركان والإيرانيون والأحزاب المدعومة منهما في تشكيل مجلسِ الحكم وتقاسم الامتيازاتِ الأخرى في مرحلة ما بعد الاحتلال، ذهب إلى أسلوب فرضِ النفس على الآخرين بالقوة، من خلال تشكيله ميليشيا سبحتْ عكسَ التيار الشيعي آنذاك، حتى رضخ له منْ تجاهله، وحصل الاعتراف بجماعته كقوةٍ فاعلة، فقام بتوجيه أنصاره إلى بيع سلاحهم للأميركان وأمام الملأ؛ ليبدأ صفحةً جديدة معهم، بعد أن كان يدّعي مناهضةَ الاحتلال ورفعَ شعارِ المقاومة، ثم فرض نفسَه كسلطة شيعية متشددةٍ في الشارع وخاض حرباً ضروساً في العاصمة وبعضِ المحافظات، أثمرتْ عن تعطيل المقاومةِ العراقية وفرضِ صراعٍ مذهبي "سنّي شيعي" لم يُطفأ لهيبه حتى الآن، وحاز ما كان يتمنى، حيث صار رقماً صعباً في السياسة المحليةِ العوجاء، من خلال حصوله على عشرات المقاعد في البرلمان ووزاراتٍ عدة.
وبما أنّ الجميع يتسلق على أكتاف البسطاء، عمل الشيوعيون على إيجاد مكانٍ لهم في الحكومة، كون الانتخابات أضحت مكشوفةَ الاتجاه لدى الطبقةِ السياسية على أنها سلاحٌ غيرُ مضمون ولا يتقدم فيها من لا يؤثر ويضغط على القوى الأخرى، فتقدموا تظاهراتٍ حاشدةً استمرت لشهور، كلّ يوم رقصات وهتافات في التحرير وأبو نواس والمتنبي والسعدون، وبعد أن حصلوا على 10 مقاعد برلمانية في انتخابات عام 2014، قالوا لزملائهم في قيادات التظاهرات: اذهبوا وقاتلوا بمفردكم فنحن نعارض في البرلمان بطريقةٍ حضارية وقانونية، ولا يوجد لدينا وقتٌ للهتاف في الشارع، وكما هي الحال في باقي بلدان المنطقة يتم استهدافُ المعترضين على السياسة الحكومية في إدارة البلد، وإدانتهم على أنهم يُخلّون بالنظام العام، فلزم أن يكون هناك حضنٌ حنونٌ لا يمكن أن يضرَّ من هو تحت ذراعه، ولكون معظم القياديين في التظاهرات من مدينة الثورة "مدينة الصدر حالياً" صار التفكير أولاً وأخيراً بزعيم التيار الصدري "مقتدى الصدر"، لا سيما أنّ معظم أبناء مدينتهم منتمون لهذا التيار.
تظاهراتُ بغداد "التكتيكية" كما يحلو لموجّهها الحالي تسميتَها من خلال تقدُّمِ المتظاهرين أو سحبِهم كيفما شاء ووقتما أراد، أخذت الأسلوب نفسَه للعب الأطفال في الحي، مع اختلاف أعمارِ اللاعبين وحجم الملعب، فكلما أراد موجّهُ التظاهرات شيئاً من شركائه في العملية السياسية، دعا إلى التحشيد وإخراج أنصاره تحت مظلةِ التظاهرات الشعبية المدنية، مهدداً باقتحام المقارّ الحكومية، ومهما سقط ممن يخرجون طوعاً لأوامره قتلى وجرحى، فهم قرابينُ مقدَّمةٌ إلى المشروع المخطط له، وسبق للمتظاهرين أن اقتحموا المقارّ الحكومية وكانوا قريبين من إسقاط الحكومة، لكنّه سحبهم "تكتيكياً" بعد أن لُبّيتْ طلباته، ثم خرج ونصب خيمتَه معهم بعد مدة وحقق ما أراد، فعاد إلى تكتيكاته وانسحب،
وأخيراً وقبل انتهاء المدةِ الزمنية لمفوضية الانتخابات "المسيطرِ عليها من قِبل حزب الدعوة الحاكم"، حشد المتظاهرين مرة أخرى وخرجوا هاتفين وقُتل من قتل وأصيب من أصيب، برصاص قوات الأمن الحاميةِ للمنطقة الحكومية، حيث توجَّه هذه القواتُ من قِبل الحزب الحاكم أسوةً بميليشياتٍ متنفذة تُعدّ جناحاً عسكرياً لتلك الجهة السياسيةِ الحاكمة، وكل اعتداء يحدث على حشود المتظاهرين معروف قبل حدوثه؛ إذ تخشى السلطة من إسقاط العرش، لا سيما أنّ التهديد والوعيد قائمان بين أطراف الصراع، لكنّ الجشعَ السلطويّ، وطموحَ البعض بأن يكون الزعيم الأوحد وقف عائقاً بينهم وبين بصيرتهم، فتُقدّم الكثير من الأرواح كقرابين لمشاريعه الرخيصة التي يطرحها على الجماهير على أنها السبيل للخلاص، وهذا حال من يطمع في زيادة مكتسباته من حكومة المحاصصة، دون التفكير في التغيير الحقيقي من أجل المصلحة العامة.
الطاعة العمياء للعقول الصغيرة التي كلُّ همِّها ما تحققه من مكتسبات، لن تجلب الحريةَ لأحد، ولن يتحققَ ما يصبو إليه الفقراء، كيف يمكن لشخصٍ العبثُ بعقول عشراتِ الآلافِ من الرجال، كما يلعب طفلٌ صغيرٌ في (البلاي ستيشن)؟ ولماذا يسمحون له بذلك، والأمر مفضوح ويتكرر المشهد ذاته؟
المشكلة أنّ هناك وطناً ينزف وأرواحاً تتساقط وعُمراً ينقضي بحسرة التطلع إلى الأمل، ماذا يمكن لقائد عصابة أن يحقق لشعبٍ لا تجد زقاقاً أو شارعاً دون أن تجد بيتاً لمعلم أو طبيب أو مهندس أو محامٍ أو عالِم؟ كيف يسود قانونٌ، وهناك من يقتدي بمن كان بالأمس القريب يُلبس عصاباته زي الشرطة الرسمية ويرسلها للقتل والاختطاف وإثارةِ الصراعات المذهبية؟ أي وطنٍ يبنيه مثلُ هذا الذي لا يعرف سوى لغةِ التهديد والوعيد؟!
للأسف صار الوطن مثلَ مسرح للدمى، هذا يحرّك خيوطه فيُهزُّ له خصر، وذاك يلاعب حباله فترتعشُ له أكتاف، وأصبح حاضرُ الأحفاد نقمة على ماضي الأجداد، أولئك الذين تمدّنوا ودوّنوا وانتظموا قبل آلاف السنين في زمن كان غيرهم يعيش في ظل قانون الغاب، وفي وقت عمَّ فيه النظام والقانون كلَّ الأرجاء، وُلد الرماد وحُكمت البلاد بشريعة الغاب.
استمروا بتمجيد منْ يخرّب الملعب وأمثاله، وسيبقى الحال سيئاً، أي كما هو الآن وربما أسوأ من ذلك، وإنْ كنتم تريدون الإصلاح فهذا الملعب لا يَليق بكم ولا ببلادكم ولا حتى بأعدائكم، فما عُدتم ندّاً لأحد، والإنسان يتعلم من خطئه، ويُكتشف الناس من أفعالهم فما دهاكم؟! أما تتعظون؟
لا تُحكم البلاد بمثل هذا الملعب وهؤلاء اللاعبين، وأساليب الطفل تختلف عن تصرفات القائد وأفكاره، والشعب عليه أن يكون حريصاً على وطنه أكثر من حرصه على شخص يتلاعب بحياته ومقدراته، وعلينا أن نتعلم أنّ الأرواح ليست رخيصة حتى تتساقطَ لأجل مكتسبات شخصية لهذا أو طموحاتٍ ضيقة لذاك، والقائد عندما ينوي ويشدّ العزم لا ينسحب "تكتيكياً" في كلّ مرة، فإمّا حرقُ السفن والمواجهة وإلا فليغبر مع الغابرين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.