على مدار أكثر من ثلاث سنوات من الانقلاب العسكري في مصر، ظهرت مبادرات عديدة للمصالحة الوطنية، وطفح الكيل بالشائعات التي بات كل طرف ينفيها ويضع شروطه من أجل الجلوس على طاولة مفاوضات لإنهاء الأزمة المصرية، لكن الواقع يقول إن المصالحة بين طرفَي الأزمة العسكر والإخوان لن يكتب لها النجاح، وأي محاولة أو مبادرة ستقتل في المهد ولن ترى النور؛ لأنه لا يراد لها أن تتم.
أرى أن السبب في قمع أي فكرة لمبادرة تصالحية في مصر يكمن في يد الذي يمسك العصا ليدير الدفة، وهذه العصا ليست في مصر؛ بل في أيادٍ غربية تحرك مؤشر بوصلة العسكر كيفما تشاء، وهم لا يريدون لمصر استقراراً من أي نوع، والجهة الوحيدة التي يمكن أن تحقق هذا الهدف هم العسكر، فالعسكر لا يملكون طموحاً ولا يخالفون أمراً، ولا يقدمون على المخاطرة بمصالحهم الخاصة في سبيل المصلحة العامة.
ومصر في أيديهم لن تتقدم حضارياً، ولن تقوم فيها نهضة؛ لأن حكم العسكر يقوم على التسلطية والسيطرة، ولا يقوم على رؤية حضارية، فالسيسي لم يقدم برنامجاً انتخابياً ولم نسمع عن رؤية سوى "الكفتة" لعلاج الإيدز، وهذا هو نتاج العسكر الطبيعي.
الحياة العسكرية بصفة عامة والمصرية بصفة خاصة تقمع الإبداع والحرية في التفكير، وتُنَمّط عناصرها على طبيعة جامدة تقدس الانصياع والنمطية بشكل واضح؛ لذلك فالعسكر هم المؤهلون دائماً لحكم دولة ما إذا أراد صاحب العصا أن يجعلها في غرفة العناية المركزة، وهو ما يراد بمصر.
الإخوان المسلمون في أي مصالحة حتى لو خسروا فيها كل شيء ستصب في النهاية في رصيد الإخوان، فإذا قلنا إن المصالحة المطروحة ستمنع الإخوان من الممارسة السياسية ولن يعود الرئيس مرسي للحكم وعدم الاعتراف بهم وغيرها من الشروط المجحفة للإخوان، إلا أن الإخوان سيجمعون الثمرة في نهاية المطاف.
صاحب العصا يرصد الوضع المصري بشكل جيد منذ ثورة 25 يناير/كانون الثاني من خلال أجهزة مخابرات عالمية تعمل في الداخل المصري، وترصد بشكل خاص رصيد جماعة الإخوان كلاعب أساسي على الساحة، رصيد الإخوان ارتفع بشكل كبير عقب الثورة، وكان على صاحب العصا خفض هذا الرصيد باستخدام الطرف الآخر الذي ارتفع رصيده هو الآخر عقب الثورة وفي نفس الوقت يتحكم فيه.
أصاب رصيد الإخوان موجة من الانحسار وصلت ذروتها في نهاية العام الأول للرئيس مرسي، في نفس الوقت حاول العسكري التحرر من صاحب العصا الذي بدأ يتململ من سوء تصرف العسكري الذي شعر بقوته وقدرته على إدارة حكم البلاد، وبمرور الوقت اكتشف العسكري أنه صنيعة صاحب العصا الذي أدار المشهد باحترافية عالية وترك الخيط للعسكري بعض الشيء، ثم يروضه وقتما يشاء وكيفما يشاء.
رصيد الإخوان يرتفع بشكل متواصل منذ مجزرة الحرس الجمهوري وحتى هذه اللحظة، ورصيد العسكر ينحدر بشكل متواصل مع فشله المتكرر في مواجهة أعباء الدولة وغرقه في الفساد الذي صنعه حكمه طوال أكثر من ستين عاماً.
صاحب العصا يدرك جيداً فشل العسكري في إدارة البلاد ليس لعجز الموارد أو قلة الإمكانيات، ولكن لعجز العقل العسكري عن استيعاب الموقف، صاحب العصا يدرك أيضا أن موقف الإخوان يتحسن يوماً بعد يوم؛ لذلك فإن الحديث عن المصالحة ليس مطروحاً لديه إطلاقاً حتى يستنفد العسكري كل الفرص المتاحة أمامه ويحقق كل المطلوب منه.
صاحب العصا لا يمكن أن يترك مصر في يد رئيس انتخبه الشعب في عرس ديمقراطي، ويمكن أن يعزله في عرس ديمقراطي آخر، لا يجب أن يحصل المصريون على حريتهم كاملة، لا يمكن أن يسمح بمستوى معيشي محترم وكرامة إنسانية، لا يجب أن يفكر المصريون ويشغلوا أنفسهم بالسياسة وأمور الاقتصاد، يجب أن يكونوا مغيبين تماماً في ساقية دوارة من الكد والتعب خلف لقمة العيش حتى يكفي المصري بيته.
محاولات من العسكري وئدت في مهدها حتى لا يفكر إطلاقاً في المصالحة ويتم توريطه يوماً بعد يوم حتى لا يغره عقله، العسكري يغرق ويغرق معه كل أتباعه في مستنقع آسن لا يستطيع أن يفلت منه، ارتاحت بوصلته تماماً في يد صاحب العصا الذي يملك الجزرة ولكنه لا يبرزها إطلاقاً، وكل يوم يتكشف للجماهير المخدوعة وهم إنقاذ مصر من الفاشية الدينية لتقع في قبضة العسكر.
في الفترة المقبلة سيدرك صاحب العصا أن السباق في مصر في أمتاره الأخيرة، فأبحاثه ودراساته تؤكد أن رصيد العسكري ينحدر بشكل كبير ورصيد الإخوان يرتفع بشكل واضح رغم الضغط الشديد عليهم، ووضع البلاد الاقتصادي والاجتماعي ينذر بغيوم شديدة وهو لا يريدها أن تفلت من يديه؛ لذلك تغيير العسكري بعسكري آخر وارد أو برجل مدني يدين بالولاء أيضاً وارد، لكن في نهاية المطاف لا يجب أن يعود الإخوان للمشهد؛ لذلك ففكرة المصالحة ليست مطروحة على الساحة، ليس لرفض الإخوان أو العسكر لها.. لا ولكن لأن صاحب العصا لا يريد ذلك.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.