نزاع البقاء بين الاندماج والانعزال

لا يعرف أحد بالضبط ما سيحدث مستقبلاً، لكن مسار الأحداث يوحي بمسارين، أحدهما أن يندمج اللاجئون رهبة من مجتمع لا يرحب به، فيتخلون عن مدلولاتهم الثقافية رغبة في ألا يتم تمييزهم.

عربي بوست
تم النشر: 2017/02/19 الساعة 00:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/02/19 الساعة 00:49 بتوقيت غرينتش

يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ** وترمي النوى بالمقترين المراميا
وما هجروا أوطانهم عن قلالة ** ولكن حذار من شمات الأعاديا

بهذه الأبيات وصف الشاعر الحُسينُ بن علي الزبيدي اليماني حال المهاجرين عن أوطانهم، ولم يدُر بخُلد الشاعر أن الفقر ليس سبباً وحيداً للهجرة، ولو عاش الشاعر حتى زمننا هذا لعرف معنى أن تترك وطنك خوفاً على حياتك، أن تغتال من قِبل طلقة طائشة أو قنبلة حارقة.

هي الحرب لا تعرف طفلاً ولا امرأة، بل تحصد الأرواح كما تشاء، وتدفع الألوف للنزوح بلا جريرة سوى أن القدر اختار لهم أن يكونوا ضمن طائفة دينية أو وُلدوا بعرقية معينة أو صادف وجودهم ذلك المكان الذي أصبح مسرحاً للقتل والدمار.
وهو النزوح الذي دفع أطفالاً للموت غرقاً في شواطئ المتوسط هرباً من جحيم الحروب، والمحزن بعد ذلك أن مَن نجا من جحيم الحرب وقع في جحيم التمييز في بلاد ما أكثر ما تباهت بحرية الإنسان أو أصمت الأذان عن حقوق اللاجئين.

لا يمكن أن نعمم الحكم على كل بلاد أوروبا، فمنها من احتفى باللاجئين وأحسن استقبالهم كحالة إنسانية تستحق المساعدة حقاً لا تكرماً، ولكن كاميرات القنوات لم تبخل علينا بصور تدعو للاشمئزاز، من إغلاق للحدود وصد للاجئين لا لشيء سوى أنهم يحملون ديناً مختلفاً عن غالب دين البلاد، وعرقِا آخر لا يشبه أعراقهم، فتكاثرت تصريحات السياسيين المتطرفين من هنا وهناك، وتواصلت الاستفزازات وتعالت النزعة الشعوبية، وزاد من صوتها بعض من عمليات إرهابية هنا وهناك.

لا يعرف أحد بالضبط ما سيحدث مستقبلاً، لكن مسار الأحداث يوحي بمسارين، أحدهما أن يندمج اللاجئون رهبة من مجتمع لا يرحب به، فيتخلون عن مدلولاتهم الثقافية رغبة في ألا يتم تمييزهم.

والمسار الآخر أن ينعزلوا داخل المهجر في أحياء تشبه كيتونات اليهود أو الأحياء الصينية في بعض عواصم الدول الغربية، فيصنعون مجتمعاً خاصاً بهم يحميهم من شر الاستهداف، ولكنه لا يمنع عنهم كاميرات الإعلام الذي حتماً سيرفض مثل هذه الحالة.

وفي تقديري سيحدث كلا الأمرين، وبدرجات تتفاوت وحجم الاستهداف الذي ستتعرض له جموع اللاجئين.
من الصعب جداً التكهن بتوقف زحف اللاجئين نحو أوروبا في ظل استمرار الحرب الأهلية في المنطقة، وعدم استقرار الأوضاع، وقد يشتد التمييز ضد المهاجرين في المستقبل القريب، نتيجة لصعود الأحزاب اليمينية في بعض الدول الأوروبية، إضافة إلى أن غالب دول الاتحاد الأوروبي تتمتع بأنظمة سياسية شبه اشتراكية تدعم أنظمة الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي، وقد يشكل تدفق اللاجئين ضغطاً على تلك الخدمات.

سيحاول الفارّون إلى بلاد الغربة أن يتصالحوا بشكل أو بآخر مع المجتمعات المضيفة في سبيل ضمان حياة تخلو من الاستهداف، ولعل تحولهم لقوة إنتاجية قد يخفف من التمييز ضدهم، ويسهم في تقبل المجتمع الغربي لهم، خاصة أن عجلة الإنتاج الأوروبي قد شهدت تباطؤاً ملحوظاً نتيجة للاختلال السكاني في القوة العاملة؛ إذ تعاني معظم الدول الأوروبية من انخفاض نسبة المواليد منذ عقود كثيرة، مما جعل القوة الشابة فيها لا تقارن بمثيلاتها في الدول العربية، تلك الدول التي بدلاً من أن تستفيد منها حصدت جزءاً منها في حروب عبثية وألقت البقية بين سندان اللجوء ومطرقة الحياة التعيسة تحت نار الحرب والعوز.

لعل القادم سيكون مختلفاً باختلاف مستقبل أوروبا السياسي نفسه، وخصوصاً بعد الهزات السياسية والاقتصادية التي تعرض لها الكيان الأوروبي، مثل أزمة اليونان المالية، وخروج ببريطانيا من الاتحاد.

وحتى تعود الأوضاع لطبيعتها في منطقة الشرق الأوسط – ولا يبدو ذلك قريباً حسب سرعة الأحداث المتتالية في المنطقة – سيظل اللاجئون أمام مطرقة اللجوء وسندان التمييز العنصري، وسيؤدي ذلك إلى تغييرات في هوية البلاد التي فروا إليها أو لبلادهم إن عادوا إليها، فللجوء أثر نفسي يصعب محوه، وإن طال الزمن.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد