سأحاول في هذه المقالة الحديث عن موضوع أبدع فيه العرب القدماء، وهو موضوع الصّناعة المعجميّة، خاصة مع ظهور أول معجم عربي شامل يسمى العين، الذي يُنسب للخليل بن أحمد الفراهيدي، محاولاً توضيح نشأة هذه الصّناعة عند العرب، وموضحاً أهمية تأليف المعاجم وإنشائها لحفظ اللّغة من اللّحن والاندثار.
إذ يبقى السؤال المطروح: كيف تميّز العرب بصناعة المعاجم؟ وكيف ساهم الخليل في إنشاء معجم يجمع كل جذور وتقليبات اللّغة العربيّة؟ وسأحاول الإجابة عن هذين السؤالين وبعض الأسئلة الأخرى تباعاً في مقالتي هذه.
نبدأ تحليلنا بتحديد المفاهيم؛ فماذا نقصد بالصّناعة؟ المقصود بالصّناعة ذلك الفن العملي، أي فن كتابة المعاجم؛ حيث يشمل التّخطيط والتّأليف للأعمال المرجعيّة المرتبة على المداخل، مثل المعاجم، الفهارس، وعموماً إرشادات الاستعمال التي تعطي معلومات، إذاً فالصّناعة المعجميّة مادّة لسانيّة تُعنى بتأليف المعاجم والقواميس كما ذكرنا، ونحن هنا نتحدث عن الصّناعة في ارتباطها بمجال المعجم، أي الصّناعة المعجميّة، فما المقصود بالمعجم لغة واصطلاحاً؟
لغة: جاء في تاج العروس أن مادة "عجم" إنما وقعت في كلام العرب للإبهام والإخفاء، وضد البيان والإفصاح، والعجمة على رأي حسين نصّار (1968) "الحبسة في اللسان، ومن ذلك رجل أعجم وامرأة عجماء إذا كانا لا يفصحان ولا يبينان كلامهما، والأعجم الأخرس أيضاً، والعجم والعجمي غير العرب، لعدم إبانتهم أصلاً". في الاصطلاح يبقى المعجم كتاباً يتناول مفردات اللّغة على اختلاف أنواعها، بتحديد معانيها وأنواعها، ويسهم إلى حد بعيد في حفظ اللّغة من الاندثار والفساد جراء اختلاط العرب بالعجم، والحفاظ على التراث الفكري والأدبي والفني والحضاري عموماً.
بعد تحديدنا للمفاهيم المفاتيح في هذه المقالة، لا بأس أن نُلقي نظرة تاريخية عن نشأة هذا الفن المعجمي.
لن نُنكر ونقول بأن صناعة المعاجم بدأت مع العرب، إذ يقول أحمد مختار عمر (2009): "بدأت صناعة المعاجم منذ عهد سحيق على يد اليهود واليونانيين والمصريين والقدماء والصينيين، ثم نمت في العصر الوسيط على أيدي العرب، ومنهم استفاد العبرانيون وغيرهم". هكذا فباستثناء التجربة الصينية التي اعتبرت رائدة من ناحية وفرة كتب علوم اللّغة وتسليط الضوء على المعجم، لا يوجد شعب آخر يفخر بصناعة المعاجم غير العرب؛ حيث انبثقت فكرة المعاجم الشاملة للّغة مع رائد المعجميين العرب الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي حاول أن يجمع مفردات اللّغة بين دفَّتَي معجمه العين؛ حيث قدَّم نظاماً صوتياً خاصاً به سار عليه أكثر اللّغويين ممن جاءوا بعده، فطريقة الخليل الرياضية والإحصائية في التعامل مع المداخل، طريقة دقيقة، رغم قلة وسائل التكنولوجيا والأجهزة الصوتية آنذاك. لكن الخليل بفطنته ودهائه وخبرته الصوتيّة (كان ذواقاً للحروف) استطاع أن يُقدّم طريقاً مستقيماً سار على دربه العديد من المعجميين واللّغويين، وهذا ما يبرز تفوق العرب في هذه الصّناعة.
هذه كانت إذاً نظرة موجزة عن تاريخ الصّناعة المعجميّة عند العرب، ختاماً أحاول أن أبين أهمية معاجمنا العربيّة القديمة، إنّ وجود المعاجم القديمة قدَّم لنا خدمات جليلة، من بينها رفع احتياجات الأجيال على العصور المختلفة، فالمعاجم من الأسباب التي تُساعد الإنسان على معرفة الأشياء المجهولة من جهة، ومن جهة أخرى تعتبر أبرز المصادر الأدبية، وكما نعلم فالأدب هو شريان حياة المجتمع، وبقطع هذا الشريان تُدمر حياة المجتمع.
لا عجب أن يبهر الغربيون بهذا التفوق في مجال المعجم، وأن يشهدوا للعرب بالسبق والتميز، لكن مع العصر الحديث وتطور المعاجم عالمياً تجمد المعجم العربي، بحيث لم يعد يفي بالمواصفات الضرورية، أو يلبّي احتياجات المُستهلكين المتنوعة والمتفاوتة.
ليُطرح سؤال: هل الباحث العربي – بتوافر الوسائل التقنية الحديثة- قادر على إنشاء معجم تاريخي مُحوسب، يكون قادراً على سدّ احتياجات الإنسان العربي المثقف وتطلّعاته؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.