لم تكن الانتخابات الرئاسية الأميركية للثامن من نوفمبر/تشرين الثاني 2016، التي أدت نتائجها إلى صعود الرئيس الجمهوري الخامس والأربعين دونالد ترامب إلى سدة الحكم كسابقاتها، فالنتائج غير المتوقعة في نظر الكثيرين بالنظر لحجم الشعارات الشعبوية والمثيرة للجدل التي تخللت الحملة الانتخابية كانت بوقع الصدمة بالنسبة للكثيرين، الشيء الذي حدا بالآلاف من الأميركيين إلى النزول إلى الشوارع عند أول يوم من إعلان نجاح ترامب، كتعبير عن رفضهم لبرامج وسياسات الرئيس، لا سيما تجاه الأقليات والحريات الفردية والنساء والبيئة والهجرة.
وبالفعل لم يتردد الرئيس الأميركي في ترجمة شعاراته إلى أفعال منذ اليوم الأول الذي تلا حفل التنصيب عبر توقيعه على سلسلة من القرارات التنفيذية كمحاولة منه لإحداث قطيعة مع فترة الديمقراطيين وإعادة رسم للملامح الجديدة التي سيبدو عليها وجه القوة الاقتصادية والعسكرية الأولى في العالم في أفق الأربع أو الثماني سنوات المقبلة، مدشناً بذلك فترة جديدة ستعرفها الولايات المتحدة الأميركية لا محالة.
ولعل من إرهاصات هذه السياسة الجديدة التي تبدو تمثلاتها كثيرة وتطال مجالات مختلفة، نذكر إلغاء الرئيس الجديد ما كان يعرف بقانون "أوباما كاير" (Obama Care)، أو قانون الرعاية الصحية الذي كان يستفيد منه الملايين من الأميركيين، وتوقيعه لقرار تنفيذي يقضي بمنع المهاجرين من بعض الدول العربية والإسلامية من دخول أراضي الولايات المتحدة، وتعطيل العمل ببرنامج استقبال اللاجئين السوريين لمدة محددة، فضلاً عن نيته بناء الجدار الحدودي العازل مع المكسيك وبتمويل من هذه الأخيرة، واعتزامه إعادة بناء القوات المسلحة،
بالإضافة إلى السعي إلى نقل السفارة الأميركية إلى القدس وإحداث مناطق آمنة في سوريا، ومطالبته الشركاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي بضرورة الدفع والمساهمة مقابل الحماية، في رسالة تحمل في ثناياها أكثر من معنى، دون أن يتردد في انتقاد المنظمة إلى وصفها بـ"المبتذلة"، ويأتي كل ذلك في وقت تتسم فيه علاقة الحلف مع روسيا بقدر كبير من التوتر، لا سيما في البلقان ودول البلطيق، والتلويح بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني، وإعلانه الحرب على ما سمَّاه "الإرهاب الإسلامي الراديكالي".
أما فيما يخص الشق الاقتصادي، فلا تبدو سياسة دونالد ترامب الجديدة أقل إثارة للجدل، حيث يعتزم البيت الأبيض نهج سياسة أكثر حمائية، عبر التلويح بإعادة النظر في كثير من الاتفاقيات الدولية، كاتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية المعروفة بـ(NAFTA) التي تضم إلى جانب الولايات المتحدة كلاً من كندا والمكسيك، والتهديد بإيقاف العمل باتفاقية الشراكة التجارية الاستراتيجية عبر المحيط الهادي (TPP) التي تضم 12 دولة على امتداد آسيا والمحيط الهادي.
لكن الأمر يبدو أكثر تعقيداً منه في ما يتعلق بالتجارة مع الصين القوة الاقتصادية الثانية في العالم، والتي بلغ حجم ناتجها المحلي الإجمالي نحو 11,38 تريليون دولار، بحسب تقرير أعده البنك الدولي سنة 2014؛ حيث تعتزم إدارة ترامب فرض المزيد من القيود الجمركية على الواردات الصينية، في مقابل تحفيز الشركات الوطنية على تشغيل المزيد من الأميركيين، وتشجيع المنتج الوطني، كما من الممكن أن يمارس المزيد من الضغوط في سبيل تطويع الصين، ودفعها إلى القبول بإعادة التفاوض حول اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين، سواء عبر اللعب بورقة تايوان أو المساومة في ملف الاعتراف بمبدأ الصين الواحدة، دون أن ننسى التلويح بورقة الوجود الأميركي ببحر الصين الجنوبي.
وبخصوص قضايا البيئة والمناخ، فقد أقدم السيد ترامب على تعيين أحد أكثر المناهضين لمكافحة الاحتباس الحراري "سكوت برويت" على رأس وكالة حماية البيئة، كما لم يخفِ البيت الأبيض نيته التخلص من خطة العمل بشأن المناخ التي وضعها الرئيس باراك أوباما، وغيرها من المبادرات الأخرى، سيما ذات الصلة باتفاقية باريس للمناخ، ومعلناً في ذات الوقت عن ميوله تجاه تعزيز إنتاج النفط والغاز الأميركيين، وتسهيل استغلال الزيت الصخري، بل وحتى الفحم الحجري والطاقة الأحفورية بشكل عام، ضارباً بسياسة أوباما المعتمدة على تشجيع الطاقات المتجددة عرض الحائط.
إن المشهد بشكل عام يبدو في نظر الكثير من الباحثين والمتتبعين أقرب إلى سيناريو ثلاثينات القرن الماضي وما قبلها، في ظل المخاوف من انتشار حمى الشعبوية، وما يمكن أن يصاحبها من وصول الأحزاب اليمينية إلى سدة الحكم في أوروبا، إذ انتهجت الكثير من الدول الأوروبية سياسات اقتصادية حمائية، وسادت النزعات المائلة نحو الانغلاق والتعصب القومي وغلق جسور التواصل والحوار، وغابت قيم التسامح مع الآخر في مقابل النزوع نحو الهيمنة ورفع الشعارات المتطرفة والعرقية، مما أدى بالمحصلة إلى نتائج كارثية على المستوى الاقتصادي كالكساد الكبير لسنة 1929 (Great Depression)، الشيء الذي مهَّد الطريق نحو صعود تيارات فاشية ونازية أدت في نهاية المطاف إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية.
فهل سيكرر التاريخ نفسه هذه المرة وتدخل معه الولايات المتحدة وباقي دول العالم مرحلة من عدم الاستقرار؟ وهل تتحقق نبوءة نعوم تشومسكي التي تعتبر صعود ترامب بمثابة "حصيلة طبيعية لمجتمع متداعٍ وماضٍ بقوة نحو الانهيار أم أن القائد ترامب لديه ما يكفي من الحنكة لكي يعبر ببلاده نحو بر الأمان وسيتمكن في نهاية المطاف من تكذيب الكثير من التكهنات التي لازمت صعوده؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.