منذ اليوم الأول لدخول ترامب البيت الأبيض، تبين أنه محاط بجبهة معارضة أميركية وعالمية عريضة تتصدرها الحركة النسوية، والتيار الحقوقي التحرري، والمكونات العرقية المختلفة، وقوى يسارية وليبرالية متنوعة، تخشى المس بالطابع التعددي والمنفتح للولايات المتحدة الأميركية، التي لم تقم على هوية أحادية وحصرية، بقدر ما تأسست على صناعة مخيال جمعي مشترك تحت عنوان "الحلم الأميركي"، الذي اجتذب إليه هويات دينية وإثنية شتى تنشد الرفاه والحرية.
الواضح اليوم هو أن التناقض الذي يشق المجتمع الأميركي والساحة الأوروبية يعكس بدوره تضارباً كبيراً بين خطين متناقضين من الميراث الفكري والسياسي، ما فتئا يتصارعان على الوعي والوجدان الغربيين لقرون متتالية.
نهج ترامب والجماعات اليمينية التي باتت تتصدر المشهد السياسي في العديد من البلاد الأوروبية يستمد جذوره من النزعات القومية المنغلقة على نفسها المهووسة برفعة الرجل الأبيض، التي عبرت عن نفسها في موجات مختلفة من الحملات التوسعية في القرن التاسع عشر تحت عنوان "حمل الحضارة وتصدير المدنية للشعوب المتخلفة"، أو في القومية النازية القائمة على تفوق الجنس الآري، أو الفاشية المحكومة بنزعة قومية عدوانية حادة.
بيد أن هناك خطاً موازياً لهذا التوجه العنصري العنجهي الإقصائي، يستمد جذوره من الميراث التنويري القائم على قيم المساواة والتعدد والتسامح والعيش المشترك، في إطار ما سماه الفيلسوف كارل بوبر بالمجتمع المفتوح.
طبعاً، هذان النهجان لم يفترقا بصورة قاطعة فأصابت بعض لوثات الأول أبعاداً من الثاني فغدت مزيجاً من التوجهات التحررية الإنسانية يختلط بنزعة استعلائية ثقافية جلية، على النحو الذي نراه مجسداً في اللايكية الفرنسية، خاصة فيما يخص علاقتها بالآخر المسلم، كما ظهرت جلية في الضجة حول قضية "البوركيني" في الصائفة الماضية، أو الجدل المتواصل حول قضية ارتداء الحجاب في المؤسسات العامة الفرنسية.
فرضت النزعة التنويرية في شكلها الليبرالي واليساري الاجتماعي نفسها، خصوصاً بعد هزيمة النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، وكان لها دور هام في تلطيف وضبط التوجهات القومية المركزية والتوسعية.
تم ذلك عبر تشكل شبكة من القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة وطوق من مؤسسات المجتمع المدني قاما على حماية النموذجين الليبرالي واليساري الاجتماعي المعتدلين.
أتاح هذا للأقليات العرقية والدينية والجماعات الاحتجاجية، بما في ذلك تلك التي تخرج عن الخط العام، أن تجد مكانها في مجتمعات غربية تعددية ومنفتحة (إذا استثنينا المرحلة المكارثية في الحرب الباردة) ومثل هذا النموذج الاجتماعي المنفتح والتعددي تحدياً حقيقياً للنموذج الشيوعي المنغلق لعقود متعاقبة.
صعود اليمين المتطرف من جديد
أوجد التوتر الذي أعقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وما يسمى بالحرب على الإرهاب وما رافقها من شعور بانعدام الأمن والقلق المطرد البيئة المثالية لصعود اليمين بكل تجلياته، من المعتدلة إلى المتطرفة. تقلصت الحدود بين أحزاب اليمين وأقصى اليمين حتى كادت تغيب، حول ملفات الهجرة والاندماج ومقاومة الإرهاب والتي غدت عناوين لقضية التعامل مع الأقليات المسلمة في المجتمعات الغربية، ومجالاً للتنافس الانتخابي والتوظيف السياسي الرخيص.
اليمين بمختلف ألوانه وأطيافه كان المستفيد الأكبر من أجواء الخوف المتنامية: الخوف من الإرهاب، والخوف من الإسلام، والخوف من الهجرة، والخوف من الأجانب والخوف من الركود الاقتصادي وتدهور الأوضاع المعيشية.
تغذت موجة الخوف من الآخر والانكفاء على الذات من مزيج من القلق وهاجس انعدام الأمن، جراء المشكلات الاقتصادية وصعود المجموعات الإرهابية، إضافة لأزمات الهوية الناجمة عن حركة العولمة، وانتشار وسائل التواصل، وارتفاع أعداد المهاجرين من داخل أوروبا الغربية وخارجها، وواقع تداخل الحدود والقوميات والأعراق.
في الحقيقة ليس صعود ترامب وانتصار معسكر البريكزيت وتفشي التيارات الشعبوية بشعاراتها الانعزالية من مثل "أميركا أولاً" و"بريطانيا أولاً" أو "فرنسا أولاً" إلا أعراضاً لهذا القلق الوجودي الغربي العميق.
نحن إذاً إزاء مفارقة عجيبة تطبع عصرنا الراهن: بقدر ما يزداد عالمنا هذا اتساعاً وتنوعاً وترابطاً بين الأمم والثقافات والأعراق مع تسارع وتيرة العولمة، بقدر ما يغدو أكثر ضيقاً وتعصباً وانغلاقاً مع تنامي التوجهات اليمينية المتطرفة.
الإسلاموفوبيا: إعادة إنتاج مخزون الكراهية ضد الآخر
شهد العقدان الأخيران ظهور نوع جديد من الكراهية، يتماهى فيه الدين والثقافة مع العرق والإثنية. فقد أتاح المناخ الذي ولدته الحرب على الإرهاب لليمين المتطرف بأن يعيد توجيه سمومه الإقصائية من استهداف أقليات عرقية بعينها إلى استهداف أقليات دينية عرقية بعينها: من السود والآسيويين إلى السود والآسيويين المسلمين.
تم هذا تحت عناوين متعددة، فتارة يشرعن خطاب معاداة الإسلام والأقليات المسلمة في إطار الدفاع عن قداسة حرية التعبير والحق في نقد الأديان، بحجة أن المسلمين ليسوا مجموعة عرقية بل دينية يحق استهدافها (والحال أن أغلبهم من السمر والسود المنحدرين من مستعمرات سابقة!) وتارة تحت شعار الاندماج والدفاع عن النمط المجتمعي، واُخرى تحت ذريعة مقاومة التطرّف والدفاع عن الأمن القومي.
هكذا تمكن اليمين المتطرف من إعادة تحشيد وتوجيه نزوعاته الهائلة للإقصاء باتجاه المسلمين، وأعاد تغليف وتعليب العنصرية ومعاداة السامية التي تسكنه ليقدمها في قالب جديد هو "الإسلاموفوبيا"، آخر أصناف الكراهية المقبولة تجاه "الغرباء" و"الأجانب".
وفي ظل سياسة الخوف والسيطرة هذه غدت مظاهر استهداف المسلمين ومعاداتهم مألوفة لا تثير الاستغراب ولا الاستهجان، وحلت "المشكلة الإسلامية" محل "المشكلة اليهودية"، وبات المسلمون هدفاً مشروعاً للخطاب العنصري الذي كان في الماضي يستهدف اليهود والسود.
حركة مقاومة مدنية
ولكن على الرغم من أن سياسات وخطابات اليمين المتطرف باتت اليوم واقعاً لا مجال لإنكاره، فإن نفس الشيء ينطبق على التيارات المتجذرة في تراث التنوير الكانطي، بما تمثله من التزام بقيم المساواة والتسامح والحرية.
تمر هذه التيارات اليوم بحالة من الاستنفار والتأهب بفعل بريكسيت وانتخاب ترامب وتفشي الخطاب الشعبوي العنصري، تعمل على حشد أنصارها وإعادة تنظيم صفوفها والسعي لتشكيل تحالفات من مختلف مكونات المجتمع انطلاقاً من الحاجة إلى حماية المجتمع من خطر اليمين المتطرف وتوجهاته التسلطية والإقصائية.
هكذا، قوبل قرار ترامب حظر الهجرة من سبعة بلدان ذات أغلبية مسلمة باحتجاجات ضخمة انطلقت في مختلف مطارات الولايات المتحدة الأميركية، كما ووجه قراره بسلسلة من القضايا رفعت ضده في المحاكم بل وحتى بحراك يشبه التمرد في أوساط المسؤولين الحكوميين.
من ذلك على سبيل المثال برقية الاحتجاج الواردة من وزارة الخارجية الأميركية الرافضة لأهم الحجج التي ارتكز عليها القرار: أي الادعاء بأنه يحمي الأمن القومي الأميركي، والتي انتشرت بشكل خاطف وحظيت بآلاف التوقيعات خلال سويعات قليلة منذ صدورها.
مثال آخر لتنامي حركة الرفض لتوجهات ترامب وقراراته قدمه حجم التبرعات الهائل الذي تلقته أهم منظمات مناهضة العنصرية في أميركا، أي الاتحاد الأميركي للحريات المدنية.
ففي يوم السبت، أول أيام الحظر على الهجرة الإسلامية، تمكن الاتحاد الأميركي للحريات المدنية من جمع ما يزيد عن 24 مليون دولار من التبرعات عبر الإنترنت، أي ما يعادل سبعة أضعاف ما كان قد جمعه عبر الإنترنت خلال عام 2015 بأسره. وقد وردت التبرعات مما يزيد عن 350 ألف شخص، ثلثاهما كانوا يتبرعون للاتحاد للمرة الأولى في حياتهم.
الطريف هنا هو أن سياسات وخطابات ترامب الهادفة لشيطنة المسلمين وتشويه صورتهم وعزلهم، بغية استثمار مخزون الخوف والكراهية المتراكم منذ سنوات، يبدو أنها حققت عكس ما كانت تصبو إليه، فقد أفرزت قرارات الإدارة اليمينية الجديدة حالة من الوعي بسرطان الإسلاموفوبيا المتفشي في المجتمع الأميركي وأخطاره الجسيمة المهددة ليس للمسلمين فحسب، بل لبنية المجتمع الأميركي نفسها والحقوق والحريات الأساسية التي ترتكز عليها.
في الخارج وفِي أعين ملايين المسلمين في مختلف أرجاء العالم، كشفت هذه الحركة من المقاومة المدنية المتنامية، والتي لم تترك قطاعاً في المجتمع الأميركي إلا وتسربت إليه – من القضاة الذين أوقفوا الحظر المفروض على المسلمين والمحامين الذين استقروا في المطارات للدفاع عن المعتقلين وحتى الموظفين الفيدراليين الذين تناط بهم مهمة تنفيذ الأوامر الرئاسية، وصولاً إلى سائقي سيارات الأجرة الذين أعلنوا الإضراب احتجاجاً على قرار الحظر – عن وجه آخر للولايات المتحدة الأميركية، وجه يختلف تماماً عن ذلك الذي يمثله ترامب وإدارته المشكلة من حفنة من البيض العنصريين.
هكذا، بينما يؤجج ترامب نيران الكراهية والتطرف، يعمل هؤلاء الرجال والنساء من أصحاب الضمائر الحية على إطفاء ألسنة اللهيب الحارقة، مميطين اللثام عن الجانب النبيل والإنساني للمجتمع الأميركي المناصر لقيم للتسامح والانفتاح وقبول الآخر، لا الوجه القبيح المتعجرف الأناني لترامب ومن دار في فلكه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.