رُوي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سُقت الهدي ولحللت مع الناس حين حلّوا".
وقال ابن دقيق العيد، في إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: (وفي ذلك جواز استعمال لفظة لو في بعض المواضع، وإن كان قد ورد فيها ما يقتضي خلاف ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن لو تفتح عمل الشيطان").
ورُوي أن عائشة -رضي الله عنها- كانت تقول: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّله إلا نساؤه"، وتعني بذلك النبي وغُسْله، وقد غسّل النبي -صلى الله عليه وسلم- عليّ بن أبي طالب، والعباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، وقثم بن العباس، وأسامة بن زيد، وشقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن ذلك يتبين لنا جواز استخدام لو، وخصوصاً في الشأن العام للأمة، وذلك بعد ظهور نتائج ومصائر غير مرضيّة تدل على أن المواقف التي أخذناها، والتي أدت لهذه النتائج لم تكن صحيحة، أو أنها كانت خيارات مفضولة في وجود خيارات أخرى أفضل منها وأحسن.
وورد أن الإمام حسن البنّا قال في نهاية حياته: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لعدت بالجماعة إلى قراءة المأثورات"، وذلك لما رآه من تشتت أمر الجماعة وتداعي بنيانها، بسبب ممارستها للشأن السياسي والجهادي واختلافها وتنازعها في ذلك، وتداعي القريب والبعيد عليها.
والإمام البنّا بشر يصيب ويخطئ، وقد أصاب -رحمه الله- حينما اهتم بهذين الجانبين -السياسة والجهاد- من جوانب الإسلام الكثيرة، ولو كان -رحمه الله- قد أراد بهذه الكلمة -إن صحّت عنه- أنه لو استقبل من أمره ما استدبر لما دخل هذين المجالين ولبقي بجماعته وأفرادها في دائرة العبادة والذكر، فإن هذا يُردّ عليه؛ لأن الاهتمام بأمر سياسة الأمة وقيادتها من أهم ما جاء به الإسلام، والجهاد من أجل مدافعة الغاصب والذود عن حياض الدين هو من أهم ما جاء به الإسلام كذلك، وإن جماعة الإخوان المسلمين بتنظيمها وأفرادها حين أقرّت منهجها فهي لم تقرّه سيراً وراء البنّا من غير فهم وإدراك، ولكنها أقرته؛ لأنها علمت -جماعةً وأفراداً- أن ذلك من صميم دينها وعقيدتها، وما عمل البنّا في ذلك إلا التجلية والتوضيح.
وإذا انتقلنا إلى حالنا اليوم؛ لاحتجنا لأن نستخدم هذا التعبير (لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا)، وذلك لأننا سرنا إلى نتائج غير مرضية على مستوى الوطن والثورة والجماعة على حدّ سواء.
ولا يعني استخدامنا لهذا التعبير الآن أننا نعمد إلى تقريع أنفسنا بعد إقرارنا بخطئنا في قراراتنا ومواقفنا التي نتحدث عنها؛ لأننا حين أخذنا هذه القرارات والمواقف لم نكن نرى النتائج والمصائر التي نراها الآن، ولم نكن نظنها أو نتخيلها.
1- مغادرة ميدان التحرير بعد تنحّي مبارك:
لقد تبين لنا أن أول أخطائنا أننا تركنا ميدان التحرير بعد تنحي مبارك بأقل من 12 ساعة، مع أننا حينها لم نكن قد قطعنا من الثعبان إلا رأسه، بل رأساً من رؤوس كثيرة له، وبقيت بقية الرؤوس مع الجسد الكبير كما هي.
كنت في الميدان ليلتها، واحتفلنا طوال الليل، وكان أكبر ما نتمناه كأفراد أن يسمح لنا القادة والمنظّمون بمغادرة الميدان صباحاً، حتى نعود إلى بيوتنا فنستريح بعد عناء أيام الثورة ولياليها.
وجاءنا الخبر في منتصف الليل بأننا باقون، ثم جاء الخبر الآخر بعد الفجر بأننا مغادرون، ويا ليته ما حدث.
2- الترشح للرئاسة:
خطأ كبير، لم نكن نحسب حسابه حينها، لكنا الآن قد علمنا أنه من أكبر أخطائنا.
وقد كان عذر الإخوان حينها أنهم وجدوا ثلاثة من الإسلاميين المستقلين المرشحين، وكلهم كانوا إخواناً سابقين: محمد سليم العوا، وحازم صلاح أبو إسماعيل، وعبد المنعم أبو الفتوح.
ورأى الإخوان أن الرئاسة ذاهبة إما لشفيق، ممثل النظام السابق، وإما لأحد الثلاثة المنشقين عنها، فرأت الجماعة حينها أن الأولى أن تكون لأحد أعضائها بسبب ذلك.
الآن يتبين لنا أنه ما كان لها أن ترشح أحداً منها أبداً، وقد كان الأفضل أن يصل شفيق للرئاسة، على أن تبقى هي والثوار في دائرة الفعل الثوري الضاغط، حتى تمر مرحلة انتقالية، ثم ترشح إن أرادت أحداً منها بعد ذلك.
3- إجراء استفتاء على الرئيس مرسي:
لا شك في أن الجموع التي خرجت في الثلاثين من يونيو/حزيران ضد الرئيس مرسي كانت جموعاً كبيرة، صحيح أنها كانت جموعاً مستأجرة ومدفوعة بدافع طائفي وبحقد سياسي أعمى، إلا أنها كانت جموعاً كبيرة، والحقيقة أنها كانت أكبر بكثير من الجموع التي خرجت تؤيد الرئيس مرسي في ذات اليوم.
لقد كنت حينها في ميدان رابعة، ولما رأيت الصورة بمشهديها (التحرير ورابعة) قلت: يجب على الرئيس مرسي أن يدعو حالاً لإجراء استفتاء على بقائه أو رحيله.
وقد حُكي بعد ذلك كلام غير مقطوع بصحته أن الرئيس مرسي وافق على إجراء الاستفتاء، غير أن المجلس العسكري الذي كان يخطط للأمور ويدبر لها رفض ذلك وأصر على العزل.
كانت الفرصة أن يخرج الرئيس مرسي ببيان رسمي ليعلن إجراء استفتاء، وترك الأمور للاختيار الشعبي.
وقد كان تخوف الكثيرين من هذه الخطوة في حينها مرده إلى عدم الثقة في إجراء استفتاء نزيه، غير أن أسوأ الخيارات حينها كانت أفضل مما سِرنا إليه وغرقنا فيه.
4- الجموع الكبيرة في رابعة والنهضة والحسم الثوري:
كنت عندما أخرج في مسيرة من ميدان رابعة أو النهضة لنجوب الطرقات ثم نعود للميدان مرة أخرى، كنت أنظر للجموع فأذهل، فهي جموع ليس لها آخر، حتى إني قلت يوماً: يبدو أن الله ينزل ملائكة تكثّر سوادنا وتسير معنا.
عندما أتذكر ذلك اليوم أتساءل: لماذا لم نقدم حينها على الحسم الثوري مستغلين هذه الجموع الهائلة؟ لماذا لم نذهب بجموعنا لمحاصرة الوزارات والمحاكم ومقرات الانقلاب؟
عذرنا حينها خوفنا على الدماء، لكنّ ذلك الخوف قد أقعدنا حتى كانت المأساة التي سالت فيها الدماء وملأت الأرض.
أتذكر أننا في الليلة التي سبقت صباح فض الاعتصام، وكنت حينها في ميدان النهضة، جاء القائمون على الاعتصام وأخبرونا بأننا في الصباح الباكر سنتوجه كمجموعات لمحاصرة الوزارات، لكن القدر لم يمهلنا، ولعل عيون النظام وآذانه في الميدان قد أخبرت النظام بذلك فبادر بمجزرته.
5- المبادرة بفض الاعتصام قبل المجزرة:
لقد كانت كلفتنا كبيرة في فض الاعتصام، فقُتل الآلاف، وتوثّق مشهد تاريخي لأكبر مجزرة بشرية لفض اعتصام سلمي في التاريخ الإنساني.
سمعت من كثيرين انتقاداً كبيراً لقادة الاعتصام؛ حيث إنهم أصروا على الاستمرار ومقاومة الفض من الصباح حتى قرب المغرب، مع أنهم كانوا يرون العشرات يقتلون في كل لحظة.
لم يكن قادة الإخوان ولا قادة الاعتصام يعرفون أو يتخيلون أن مجزرة بهذا الحجم ستحدث، ولو علموا لكان لزاماً عليهم أن يفضوا الاعتصام قبل المجزرة.
كنت في الميدان قبل الفض بيوم وبِتنا ليلتنا وما يتخيل أحد منا أن يقدم النظام على الفض، وكنا نقول: إن دموية النظام لن تكون بهذا الحد؛ لأن فض الاعتصام سيُسقط آلاف القتلى.
وأصبحنا في الصباح الباكر على أصوات الفض، وكنت في ميدان النهضة، ولم يستغرق الأمر هناك أكثر من ساعة، أما في ميدان رابعة فقد أفقدهم المشهد هناك القدرة على أخذ القرار الحكيم، ولو عاد الأمر لكان لزاماً عليهم أن ينصرفوا من الميدان وأن يحقنوا دماء من معهم، على أن لا تتوقف الثورة ضد الانقلاب، وتبدأ موجة من المسيرات والوقفات والأيام الثورية.
6- السلمية والعنف:
لو عاد بنا الزمان ألف مرة، فلن يكون أمامنا إلا طريق السلمية لنسير فيه، سواء أوصلنا هذا الطريق أو لم يوصلنا.
طريق العنف مهلكة للبلاد والعباد، وأن نبقى في ظل هذا النظام العسكري الدموي الفاسد خير لنا من أن نسير لمصير مثل مصير سوريا واليمن وليبيا.
بل لو عاد بنا الزمان فسيكون لزاماً على المجموعات التي اتخذت طريق العمليات النوعية أن يراجعوا أنفسهم ويتوقفوا عنها، فما أخذنا من هذه العمليات إلا مزيداً من تغوّل النظام وبطشه، ومزيداً من تشويه صورة ثورتنا في عيون الداخل والخارج، ولقد كنت ضد هذه العمليات من بدايتها.
سلميتنا أقوى من الرصاص، وإن لم تكن أقوى من الرصاص فلا نملك غيرها وليس لنا بديل سواها.
7- التفاوض مع النظام:
الرفض المبدئي لفكرة التفاوض مع النظام رفض غير ذكي، فالتفاوض وارد مع ألد الخصوم وأعدى الأعداء، وقد كان المتحاربون ولا يزالون يتفاوضون وهم في أرض المعركة.
المرفوض مبدئياً هو التصالح مع النظام، وهو نظام ديكتاتوري غاشم لا يجب على أي وطني حر في هذه البلاد أن يتصالح معه، وعلى الجميع مقاومته، كل حسب قدرته واستطاعته.
أما المفاوضة معه لأجل تسوية، فهذا هو الوارد، ولقد كنت أرى في أيام مرت أن مفاوضة النظام حينها كانت واجبة، وذلك في الأيام التي كانت تلح علينا فيها أمارات الهزيمة الكاملة والنهاية الوشيكة.
لا تزال المعركة قائمة، ولا يزال التفاوض وارداً وجائزاً، فإن أيقن الجميع بالهزيمة والنهاية واتفقوا عليها، فحينها يكون التفاوض واجباً لأجل المعتقلين والمطاردين والمهجّرين.
8- لا كسر لدولة العسكر من غير اصطفاف ثوري:
لقد تأكد لنا أن لا كسر لدولة العسكر من غير اصطفاف ثوري لقوى ثورة يناير/كانون الثاني مرة أخرى، ولن ينجح الاصطفاف الثوري إلا بتنازل من جميع الأطراف.
ولو عاد بنا الزمان لتنازلنا من أجل الاصطفاف أياً كان الثمن، وإن الثمن الذي ندفعه الآن على مذبح العسكر هو أضعاف ما كان يحتاجه الاصطفاف من أجل كسر دولتهم ونظامهم.
لو عاد بنا الزمان فعلى الجميع أن يتنازل لإمضاء الاصطفاف، وأغبى ما نحن فيه أننا نندم على عدم اصطفافنا فيما مضى، مما أدى بنا إلى وضعنا الراهن، ثم نمضي في وضعنا الراهن هذا دون اصطفاف أيضاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.