في غمرة الربيع العربي الذي اجتاح بلدان الشرق الأوسط كهبَّة شعبية معبرة عن غليان واستياء من عقود طويلة من الاستبداد والتسلط، شكَّل وصول الأحزاب الممثلة للتيار الإسلامي إلى السلطة في الكثير من البلدان العربية إحدى أهم محطاته، بعد أن اكتسحت الانتخابات، مستفيدة من قوتها التنظيمية وضعف باقي التيارات السياسية اليمينية واليسارية.
ولم يشذ المغرب عن هذه الحالة؛ حيث شكَّل علامة فارقة باختياره النهج الإصلاحي في ظل الاستقرار، بعيداً عن منطق الثورات، وكان من أبرز ثمراته وضع دستور جديد للبلاد يؤكد أهمية الاختيار الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة، وتقليص صلاحيات الملك لصالح رئيس الحكومة المنتخب، كما أسفر أول انتخابات تشريعية بعد تعديل الدستور عن تصدّر حزب العدالة والتنمية ذي المرجعية الإسلامية ليقود الائتلاف الحكومي بعد ذلك.
اتسمت الحصيلة الحكومية لحزب العدالة والتنمية في ولايتها الأولى بضعفها في الجانب الاجتماعي والاقتصادي؛ حيث سجلت المديونية العامة ارتفاعاً؛ لتصل إلى 79%، بينما ارتفع معدل البطالة إلى 11%، وانخفضت نسبة النمو إلى ما دون 5%، وفي الجانب الاجتماعي تم تنفيذ مجموعة من المراسيم الحكومية تروم إنهاء عهد الوظيفة العمومية، باللجوء إلى الخصخصة والتوظيف بالتعاقد حتى في القطاعات الحساسة، مثل التعليم والصحة، والتلويح بضرورة إلغاء مجانيتها.
وعلى الرغم من الخدمات الجليلة التي قدها الحزب الحاكم بتمريره سياسات نيوليبرالية والمخاطرة بشعبيته، اتضح في نهاية ولايته الحكومية حجم النفور بينه وبين المخزن (المرادف المغربي للدولة العميقة أو حكومة الظل)؛ إذ عبر رئيس الحكومة بنكيران عن امتعاضه وشكواه من محاربة وزارة الداخلية لحزبه في كثير من خطاباته الجماهيرية أمام أنصاره، كما عبَّر عن استيائه من التحيز الواضح لحزب الأصالة والمعاصرة الليبرالي المتهم بأنه حزب إداري أسس بهدف إسقاط الإسلاميين، ووجود رغبة مبيتة في إقصائه من العملية السياسية.
شهد المغرب طيلة هذه الفترة استقطاباً حزبياً وصراعاً سياسياً، وظهر في الأفق إمكانية الانزلاق إلى صراعات أكثر خطورة مع التهديدات التي أطلقها بنكيران، منذراً الدولة بخطورة التلاعب بنتائج الانتخابات وعواقبها الوخيمة.
وعلى الرغم من القرارات الاقتصادية والاجتماعية القاسية التي أقدم عليها وتوقُّع المحللين السياسيين بانخفاض شعبيته، فإن ذلك لم يحدث؛ إذ تصدر الانتخابات البرلمانية للمرة الثانية بنيله 125 مقعداً برلمانياً؛ ليكون بذلك أول حزب سياسي مغربي يقود الحكومة لولايتَين في حين حل غريمه الأصالة والمعاصرة ثانياً بحصوله على 102 مقعد من أصل 395 مقعداً، بينما توزعت باقي المقاعد على الأحزاب الأخرى.
وعملاً بمقتضيات الفصل 47 من الدستور، كلَّف الملك أمين العام العدالة والتنمية ورئيس الحكومة السابق عبد الإله بنكيران بتشكيل الحكومة؛ ليبدأ بذلك مسلسل المفاوضات مع الأحزاب السياسية، قصد ضمان الأغلبية البرلمانية؛ حيث يتعين الحصول على 198 مقعداً برلمانياً لتشكيل الائتلاف الحاكم؛ لتبدأ بذلك مرحلة المفاوضات مع الأحزاب السياسية حول شروط الدخول في الفريق الحكومي، دشنت بتصريح صحفي يعلن فيها بنكيران قبوله المبدئي بجميع الأحزاب باستثناء عدوه اللدود الأصالة والمعاصرة، وحينها بدا أنها مسألة وقت قبل الإعلان عن توليفة الائتلاف الحاكم والبرنامج الحكومي.
ومع انقضاء المهل التي تم منحها بدأت تلوح بوادر أزمة سياسية خانقة بسبب تشدد الفرقاء السياسيين تجاه شروطهم التفاوضية؛ ليجري بعد ذلك تبادل الاتهامات حول المسؤولية عن حالة الانسداد الحكومي التي لم يعهدها المغرب منذ استقلاله، مع التعنت الواضح الذي أبداه حزب التجمع الوطني للأحرار (37 مقعداً) في شخص أمينه العام الملياردير عزيز أخنوش وشروطه التعجيزية المتضمنة لإدخال كل من الحركة الشعبية والاتحاد الدستوري، بالإضافة إلى الاتحاد الاشتراكي، وإخراج حزب الاستقلال من الحسابات، ثم إضافة مطالب جديدة، منها التخلي عن قرار إلغاء الدعم عن المواد الطاقية، حينها طفح الكيل بـ"بنكيران" ودفعه إلى إصدار بيان ختمه بعبارة "انتهى الكلام" كدلالة على إعلانه استحالة الوصول إلى حلول توافقية.
إن هذا الانسداد الحكومي الذي يعاني منه المغرب لا يمكن اعتباره مسألة عادية تحدث حتى في أعتى الديمقراطيات، بل يعد محاولة لوأد تجربة الانتقال الديمقراطي وانقلاباً ناعماً على نتائج انتخابات 7 من أكتوبر/تشرين الأول، يقوم بها المخزن (الدولة الموازية) عبر أذرعه الحزبية ممثلة في الحلف المشكل من الأحزاب الإدارية، بقيادة حزب التجمع الوطني للأحرار الذي أظهر ميلاً واضحاً على عرقلة مسار تشكيل الحكومة، وتعويض الأصالة والمعاصرة الذي فشل في تحجيم نفوذ ونجاحات الإسلاميين.
لم يستوعب منطق المخزن تحول حزب إسلامي إلى قوة ذات استقلالية تنظيمية تستند إلى شرعية انتخابية ورصيد جماهيري، بإمكانه تغيير قواعد اللعبة السياسية بإضافة عنصر جديد اسمه الإرادة الشعبية إلى جانب شرعية القصر، وباتت متيقنة أن منح ولاية له تهديد وجودي لمصالحها؛ لذلك تم الاشتغال على عرقلته والانقلاب عليه، لكن بطرق ناعمة، عبر تحريض الأحزاب الإدارية على الامتناع عن التحالف معه، متناسية أنه شكل إلى حدود الأمس القريب ورقة رابحة إزاء شارع يغلي، وبعدها أصبح ورقة ضرورية لإصلاح المقاصة والتقاعد، وتوقيف الإضرابات، واستعادة التوازنات المالية العمومية، أما الآن فقد أصبح عبئاً على الدولة مع انتهاء مدة صلاحيته السياسية.
من جانب آخر، أظهرت الأزمة وجود فراغ دستوري لعدم وجود بند يحدد مهلة تشكيل الحكومة ولا كيفية انتقال السلطة في حالة الإخفاق في ذلك، وهو ما يراه بعض المراقبين ثغرة يمكن الاستناد إليها لتأويل مضامين الدستور والالتفاف عليه إن اقتضى الأمر ذلك، ومن جانب آخر إماطة الأزمة اللثام عن مساوئ النظام الانتخابي الذي يفرغ مفهوم التعددية الحزبية من محتواها.
مع إطالة أمد الأزمة يزداد الأمر تعقيداً مع تقلص هامش المناورة أمام حزب العدالة والتنمية لإنهاء الوضع؛ حيث يعتقد الكثير من المحللين السياسيين وجود ثلاثة سيناريوهات؛ إذا لم تتجدد المشاورات بين بنكيران وأخنوش، أبرزها تقديم بنكيران للاستقالة للملك أو تشكيل حكومة أقلية، أو تنازل التجمع الوطني للأحرار عن شروطه التعجيزية لضمان أغلبية منسجمة، ويظل الخيار الأخير مستبعداً مع لجوء التحالف الحزبي إلى انتخاب رئيس مجلس النواب، وتشكيل الفرق البرلمانية للشروع في مباشرة مهام السلطة التشريعية، وفرض الأمر الواقع عليه بداعي امتلاكهم الأغلبية.
ما يجري بالمغرب منذ انتهاء الانتخابات التشريعية سيزيد من مصداقية خطاب المظلومية الذي يروجه الإسلاميون، ويؤكد الطرح السائد بعدم جدوى العمل السياسي، مع ارتهان مصير البلاد بأحزاب سياسية كرتونية فاقدة للحد الأدنى من الاستقلالية، وبأن الدولة الموازية لا يمكنها السماح بإنجاح عملية الإصلاح السياسي التي دشنها انطلاق الربيع المغربي منذ 20 فبراير/تشرين الثاني 2011 بإعلانها استعدادها للعودة إلى السلطوية التي اعتقد المغاربة أنها ولَّت دون رجعة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.