لماذا يُنظر للفكر دائماً كما لو أنه كان نقيضاً للشعر؟ بدرجة كبيرة يبدو ابن خلدون، ومعه مهدي عامل، ناقمين اليوم على الفكر، أيما فكر.
إن لعبة الكشف والغموض التي استفرد بها الفكر كل هذه السنين لم تعد تغري أحداً، الكون مجهول الإنسان، والإنسان اختلافه الوحيد، قال ابن خلدون وهما يسيران الهنيهة: لِنقل العبارة بطريقة أخرى، منذ أن مخر الإنسان عباب الكون، وأعطى الغموض مسمى "اللامتناهي"، لم يعد الأصل في الكشف البتّة، بل في معاينة الظهور في عين الحضور. في بغداد التقى الرجلان، وعلى أرصفة شارع المتنبي ساراً معاً حائرين: من أين نبتدئ الكلام؟ قال مهدي. كان الجو بارداً كجواب ابن خلدون: من هنا!.. وأشاح بناظريه ناحية الشارع متهكماً، فهم مهدي المراد؛ من الشارع يبتدئ وإلى الشارع ينتهي كل شيء.
ما اسم الفكر؟. لم يرق هذا "السؤال – المبتدأ" لمهدي عامل كما راق لابن خلدون. مهدي لا يحب البدايات ولا يهوى سكنى المطالع أبداً، يطوي توقُ هذا الرجل المسافات ليبلغ بكلامه المقصد الأخير. "بغداد منشغلة عن هذا السؤال يا عبد الرحمن"، قال مهدي. أعاد ابن خلدون سؤاله موضحاً أن ثمة مساحة بين الفكر والرأي يحتاج هو نفسه لفهمها. لماذا لم يهتدِ الفكر لأرضه بعد ها هنا؟ سكت الرجلان وجدّا السير قبل أن يجيبه عامل صافناً: إن سؤالك هذا محاولة لجسر المسافة الفاصلة بين دفتي ثنائية العقل: الفكر والرأي. يا عبد الرحمن، يختلف سؤال الفكر عمن سواه. للرأي سؤال الضفاف. وللفكر سؤال الكهف، الضفة لا تكون إلا في تقابلها مع أخرى. والكهف لم يخرج أحد منه كيما يعود إليه، لا يكون الفكر إلا في انسراحه من قيده "الكهف"، هو لا يطلب الإجابة بالعودة إليه البتة، وهو وإن عاد، لا يعود نفسه أبداً.
أحس ابن خلدون أن جواب مهدي يكاد يطبق عليه، وأن احتفاء ابن عامل بالفكر هذا يكاد يشبه إلى حد كبير احتفالية ديكارت بالوجود، أو إضمار سارتر للعدم في حديثه عن الوجود، كان ابن خلدون حذراً من اغتراب الفكر في الرأي ومن افتقاد الفكر لفردوسه الأبدي، زاد حذر ابن خلدون عندما بادره مهدي عامل بالقول: برأيي يبتدئ الزمان بموت الفيلسوف وولادة السياسي.
وما تعريفك للزمن يا مهدي؟ لا وجود للزمن إلا في البحث عن المجهول. الزمن خديعتنا الواعية لحُلمنا بالوصول يوماً، هو المصداق الأمثل للاحتمية الوصول إلى الضفة الأخرى من الوجود، إنه غيابنا الذي تواطأنا عليه هرباً من الإجابة عن سؤال يحاصرنا: أين هي تلك الضفة؟ وكيف هي؟ ولماذا نريد الوصول إليها أصلاً؟
كان مهدي يتحدث وينظر في عيون ابن خلدون منتظراً إشارة تعتمر محيّاه، لم يوحِ وجه ابن خلدون بشيء قط، لكنه أخذ على مهدي انشغاله بالمجهول وابتعاده عن الذات، كل كائن ذاتي بطبيعته. يحتاج الإنسان كيما يفهم العالم الولوج إلى داخلية سره الخاص، الإنسان كائن جسماني، وهو في الآن عينه كائن طوطمي، هو يريد أن يطل على العالم وأن يمارس قطيعته مع العالم في آن. اللغة والثقافة كلها أشياء تريدنا ونريدها كيما نحمي أنفسنا من الانسراح في الآفاق، كل فكر لا يعترف للغة والثقافة بحيازتها الضفة الأخرى من الفكر -كما تدعي كلتاهما- سيخسر كلتا الضفتين.
لا يبدو مهدي متحمساً لأفكار ابن خلدون، برأيه إذا كان الزمان هو فعل الجَسر نفسه، فالأحداث والوقائع هي ذلك النهر العظيم الذي يعيد موضعة الفكر، تريد الأحداث والوقائع أن يعي الفكر أنه في موقع الشاطئ لا الضفة، وأن كل احتياز ادعته اللغة أو الثقافة بكشفها الضفة الأخرى، انتهى بخسارة الفكر رهان الجَسر، لوهلة يستشعر المستمع لحديثهما أنهما أكثر انسجاماً في الكتب والنصوص المدوّنة مما هما عليه الآن، يؤمن مهدي عامل بأن ابن خلدون أقرب للبنيوية منه للتفسير العلمي للتاريخ، يؤمن ابن خلدون بأن مهدي عامل منأسر لخطاب التنوير مرحلة القرن التاسع عشر.
يسيران شاخصين ببصرهما إلى البعيد، كان الرصيف المشظى في بعض من جوانبه بفعل الحرب قد شغل بال ابن خلدون وسؤاله.. ما دلالة عدم وجود أرصفة حسنة في بغداد؟. بالنسبة لابن خلدون كانت الأمور أكثر وضوحاً في الربط بين الرصيف والسلطة المفتقدة، الرصيف المشظى دلالة مكثفة على غياب الدولة عن مراح شوارعنا، وعلى تغول الحرب فينا نحن أهل هذه الأرض، بالنسبة لعامل يختلف الأمر بعض الشيء، فالرصيف دلالة على أزمة النخبة الحاكمة ليس إلا، إن عدم نظم أمر المدينة دلالة على أزمة الدولة لا المجتمع، والنخبة لا عموم الشعب.
يختلف الاثنان في تحديد معنى الدولة، كما موقع المجتمع والسلطة وعلاقتهما ببعضهما البعض، قال مهدي: المجتمع هو البرهان المسبق لكل ما سوف يصدر عنه، المجتمع أساس النص السياسي ومنتهاه، لا يبدو ابن خلدون موافقاً مهدي عامل في فهمه للمجتمع وأساسيات حكمه بشكل خاص، المجتمع بنظر ابن خلدون سؤال السياسة والسلطة إجابته، السلطة كلٌ يملأ كل شيء، بعبارة أخرى، من السلطة يبتدئ كل شيء وإليها ينتهي كل شيء.
سريعاً كان يتبدَّى لكلا الرجلين اختلافهما في توصيف السياسة والثقافة، كان ابن عامل مصرّاً على اعتبار الثقافة مسألة تلقائية وعفوية، الثقافة شأنها شأن السياسة، وجه داخلي من أوجه الحضارة، هي تُدخل الأفراد والجماعات في حركية من التكوين التلقائي المتبادل فتكثّر الذات ذاتياً وغيرياً في آن معاً، الثقافة انهمام كذلك بالذات والآخر انهمام نقدي، هي تمعين ونقد وتقويم كيما ننحسر في التعامل مع الآخر والذات كأقانيم جاهزة ونهائية.
هل الإنسان كائن ثقافي أم سياسي؟ لوهلة يبدو السؤال مخادعاً. ومهدي لا يحبذ الكنايات والفصاحة المراوغة، كان ابن عامل يستشعر في منطق السؤال ضرباً من تواطؤ المثقف مع السلطة؛ كل سؤال مبهم تعمية صريحة للعقل عن أن يكون قوة فاهمة. فلنقُل الأشياء بمسمياتها إذاً: الثقافة وعي بالوقائع، والسياسة نتاج الثقافة، الثقافة وجه آخر للحقيقة فلا أصالة للسياسة بغيرها. ابتسم ابن خلدون ونظر إلى ساعة يده اليسرى. وما جوابك أنت يا عبد الرحمن؟ سأل مهدي. قال ابن خلدون: الصواب مبتغى السياسة، والحق مبتغى الثقافة. ويا لَها من مصادفة لغوية جميلة تلك المسافة اللغوية – المعرفية الفاصلة بين أن يكون يفعلك مصيباً وبين أن يكون محقاً، لقد أوغل اليسار يا مهدي بتصنيم الدلالات العارضة للحقائق ورفعها إلى مستوى القيم المطلقة، فكان خطابه في البيئة العربية هيجلياً أكثر منه ماركسياً، هل امتلك اليسار رؤية علمية للتاريخ العربي بعد كل هذه السنين؟
كان ذلك السؤال ميقات فراق الرجلين بعدما توقف ابن خلدون تاركاً مهدي يغذّ السير وحده، بغداد تضيق بالعبارة والإشارة قال مهدي في نجواه سراً، ثم أعرض عن الرجوع بين الجموع. كمشّائين يطويان ظلال الأبنية والكتب المنتشرة، غابا في صخب هذه المدينة الدامية. بغداد حزينة اليوم، ساكتة، دامية، موجَعة، لا وقت للتأويل فيها ولا لسكنى للأسئلة. قال القلب: لبغداد موعد مع الضفاف، فكن واقعياً وابتغِ في المستحيل المرتجى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.