لعلّ أوّل معركة حسمها الثوريّون في تونس هي معركة الحريّة، فقد قطعوا نهائيّاً مع منطق الحَجْر والقمع والمصادرة، ولئن عرف مسار الحريات في تونس بعد الثورة منعطفات حادة نحو الفوضى أحياناً، فإنّ ذلك لا يتعدى أن يكون رجّات في سبيل تعلّم أول دروس الديمقراطيّة.
ومن مجالات السياسة التي أينعت وازدهرت بفضل تلك المعركة مجال التنظّم الحزبي؛ إذ بلغ المشهد الحزبي في تونس درجة من التنوع والاختلاف لم يعرفها تاريخ تونس الحديث.
ولعلّ أبرز حزب جاءت به معركة الحريّة في تونس هو حركة النهضة الإسلاميّة، فالنظر عميقاً في التشكيلة الحزبية الجديدة في تونس يشير إلى أنّ كل الأحزاب بعد الثورة كان يُسمح لها بالنشاط قبل الثورة لو هي أرادت ذلك، إلّا حركة النهضة التي لم يكن أصلاً مسموحاً بحياة مناضليها إلاّ في السجون أو المنافي، ولذا يُسوّغ نسبة هذا الحزب نسبة حقيقيّة إلى الثورة.
فلولا الثورة ما عادت النهضة، لكنّ هذه العودة لم تكن عودة طبيعيّة، فالحزب الذي كان يناضل من أجل تأشيرة للنشاط الديمقراطي وجد نفسه بعد عشرة أشهر من اندلاع الثورة على سدّة الحكم وجهاً لوجه أمام واقع ثوري لم تهدأ شرارة الحماسة في قلوب أنصاره.
لم يكن متاحاً للنهضة وهي تستدبر عقوداً من الاحتجاج وتستقبل تجربةً في الحكم بعد انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011 أن تكيّف جسمها الداخليّ هياكلَ ومؤسساتٍ وأن تطوّع رؤيتها الفكرية ومنهجها في العمل السياسي مع مقتضيات الراهن الثوري، ولذلك وجدت النهضة نفسها تستثمر تجارب في الحكم سابقة في أقطار عرفت ثورات شعبية، فخلصت إلى تبنّي خيار الائتلاف في الحكم بقيادتها مع حزبين مجاورين في الترتيب في المجلس الوطني التأسيسي بعد أن امتنعت الأحزاب اليساريّة التي تبنت خيار المعارضة عن المشاركة في الائتلاف.
ما ميّز الائتلاف في تلك المرحلة هو عجزه عن حكم البلاد عجزاً واضحاً طيلة السنتين التي ظل فيهما على سدة الحكم، فقد لاقى محاولات عديدة للإطاحة به انتهت بقرار النهضة الانسحاب من الحكم باعتبار قيادتها الائتلاف الحاكم وقتئذ.
وإنّ من أهمّ الدروس التي غنمتها النهضة من تجربة الائتلاف هو عدم رجحان هذا الخيار في الديمقراطيات الناشئة مثل تونس، ربّما يكون هذا الخيار ناجعاً وقادراً على تسيير شؤون الحكم في الديمقراطيات الراسخة، أما والحال في تونس فالخيار مستبعد.
ولذلك قبلت النهضة الشراكة في الحكم بعد انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2014 وإن كانت شراكة غير متكافئة أغضبت قواعدها من حيث أطراف الشراكة وحجمها. لكنّ هذا القبول عبّر صراحة عن اتجاه النهضة نحو خيار آخر في الحكم أوسع قاعدة برلمانيّاً وأكثر تشريكاً للنخبة السياسية ألا وهو خيار التوافق الذي يمنح التشكيلة الحاكمة ضمانات الحكم والصمود.
لقد أصّلت النهضة لخيار التوافق ونظّرت له وشاع استعمال المصطلح في خطاباتها وعلى ألسنة قياداتها حتى كادت تنسبه إلى نفسها من بين الأطراف الحزبية السبعة المشاركة حالياً في التوافق الحاكم.
ولئن كان التوافق عقداً ينظم علاقة النهضة بشركائها في الحكم من جهة، فإنه ومن جهة أخرى بدا في حاجة إلى مراجعات في الفكر والتنظّم ربما تبلغ حدّ التراجعات، ولذلك اكتسب المؤتمر العاشر الاستثنائي للحركة مايو/أيار 2016 من الأهميّة ما جعل الأوساط السياسية والاقتصاديّة والإعلاميّة محليّاً وإقليميّاً ودوليّاً تعلّق عليه انتظارات كبيرة.
نستطيع القول إنّ المؤتمر العاشر للحركة هو مؤتمر التوافق بامتياز، ذلك التوافق الذي كان في حاجة إلى أن تبنى مخرجات المؤتمر على أساس استراتيجيّ يجد عليه التوافق تخصّصاً في هياكل الحركة يلبي حاجياته في الحكم ويستجيب لمقتضياته المستقبليّة.
بُنيت إذاً مخرجات المؤتمر العاشر للحركة على أساس التخصّص خياراً استراتيجياً، إلّا أنّ ترجمة هذا الخيار فصلاً أو تمييزاً بين منشطي الدعوة والسياسة فحسب تُعتبر تغافلاً عن مقاصد التخصّص، بل فهماً منقوصاً لاستراتيجيات الحركة في العمل على مدى متوسّط على الأقل.
تبدو الحركة اليوم في لحظة دقيقة جداً بين تنظيم شؤونها وتنظيم شؤون البلاد، وبين الدولة والمجتمع، وبين الفرص والمزالق، وهذا ما يحتّم عليها انتخاب الخيارات الصحيحة في السياقات الصحيحة مراعية في ذلك مجالاتِ الحياة بوصفها شؤوناً والشرائحَ الاجتماعيةَ بوصفها ناساً، وهل السياسة غير تدبير شؤون الناس؟
وإنّ ما يُنتظر من الحركة، وهي تستكمل بناء هياكلها ومؤسساتها، أن تنفتح هيكليّاً على الشرائح الاجتماعيّة المختلفة بما يحقّق الانتظارات التاليّة:
– الارتباط العضوي بمختلف الشرائح الاجتماعية.
– استيعاب أعلى مستوى ممكن من مشاغل الناس.
– تفرّغ الحزب للشأن السياسي الداخلي (التنمية والأمن القومي حالياً) والخارجي (المنطقة العربية والقوى الدولية الكبرى).
– عقد الوصل بين الدولة بمؤسساتها والمجتمع بفعاليّاته في سبيل حوكمة رشيدة.
في هذا الأفق تتنزل اقتراحات ومبادرات هيكليّة متنوّعة على طاولات النهضة لعلّ أبرزها في ملف الشباب المنظمة الوطنية للشباب التي تُعرِب عن نفسها كميكانيزم حيويّ يعضد جهود الحركة في استيعاب شريحة مجتمعيّة فاعلة وحيويّة، وتحويل أصل مادّتها الخام من التوتّر والفوضى إلى شكل من التنظّم يؤطرها وفق رهانات البلاد والحركة.
وفي هذا الأفق أيضاً ووفق هذه الرؤية ينبغي أن تتعاطى حركة النهضة مع أكثر من ملف كملف الشباب وملف المرأة وملفات النخب الثقافية والاقتصاديّة وغيرها من الملفات العالقة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.