كان الملمح الأبرز في الساحة السودانية بين يدي الاستقلال (1956) انقسام النخبة السياسية حول الحدث الأهم، لكن كلا الموقفين؛ الاستقلال الأتم للسودان، أو إلحاقه متحداً بمصر، كان يقوم على خلفيات شكَّلتها أجندات أجنبية، وإذ تبنى حزب الأشقاء (1943) المدعوم من مصر، مشروع الوحدة مع مصر توالى دعمه لمدى يبلغه ساحة البرلمان؛ ليحسم أمر الوحدة مع مصر، فقد اتخذت الإدارة البريطانية حزب الأمة (1945) واجهة تساند حزب الأمة عاملاً لاستقلال السودان ضمن خطتها نحو تمام عزل السودان مستقلاً عن الإدارة المصرية، وهي ذات الحيثيات التي شكلت ملامح المنافسة في الانتخابات التي تشكل على ضوئها البرلمان الذي سيفصل في القضية، وإذ انجلت تلك المعركة بانتصار الحركة الاستقلالية التي قادها حزب الأمة متقمصة الشعار الذي أطلقه لأول مرة ونجت باشا "السودان للسودانيين"، ومهما يكن الشعار لأول مرة يحمل رؤية إنكليزية باكرة لعزل السودان عن مصر، فإنه في لحظة الاستقلال أضحى تعبيراً وطنياً عن مطلب تقرير المصير، والاستقلال عن سطوة كل من بريطانيا ومصر.
الانتقال المستمر
لكن السودان منذ انتقال إدارة شؤونه السياسية لأيدي النخبة الوطنية تضمن الانتقال، منذ الاستقلال كان هنالك دستور انتقالي وجاءت ثورة أكتوبر/تشرين الأول لحكم انتقالي لم يكتمل، ومن ثم دخل السودانيون في عهد طويل "العهد المايوي"، ثم جاء عهد الانتفاضة الذي لم يكتمل فيه التأسيس، وإلى حين انفصال الجنوب، لكن السودان لا يزال اليوم في مرحلة انتقال وتأسيس مهما تكن الأحزاب السياسية مدركة لأصل أزمة السودان تعبّر عنها بصور جليّة في خطابها كله: "إن أزمات السودان قديمة تراكمت مظاهرها السالبة ونمت عبر الحقب الوطنية من بعد أن بدأت توتراتها بأسباب من سياسة التنمية الاستعمارية غير المتوازنة التي اختطتها الإدارة البريطانية بما يحقق مصالحها، لكن أنظمة الحكم الوطنية الخالفة توارثت جميعاً ذات سياسات الاستعمار، كما فشلت الأحزاب السياسية والنخب المثقفة في أن تبرم عقد ولاء يجمع مكونات القطر السوداني على هويّة سودانية تصلح أساساً لوحدة وطنية جامعة".
ألقت أحوال الانتقال المستمر للدولة السودانية بظلال كثيفة على الأزمة الأعمق، التي واجهت كل الحكومات الوطنية، واتصلت بمعالجاتها كل الأحزاب السياسية كذلك، دون أن تصل إلى نهايات خاتمة بشأنها، مشكلة جنوب السودان، مهما حدد مؤتمر المائدة المستديرة مواضع وتعقيدات الأزمة لأسباب تتعلق بجغرافيا القطر وتكوينه البشري، ومن ثم لأسباب سياسية تاريخية تعود إلى الاستعمار، لكن تعضدها أخرى مستمرة تتمثل في الأخطاء التي ظلت تُواقعها الحكومات القومية المتعاقبة منذ أول عهد الاستقلال، وإذ تعمّق إضفاء الصفة العرقية على الصراع الشمالي الجنوبي عبر الحقب الوطنية، فإنها كذلك عجزت عن إعادة تقسيم السلطة والثروة بالسويّة بما يعادل التفاوت في درجات النمو الاقتصادي بين الشمال والجنوب، وإذ تحتمل الأحزاب السياسية السودانية كفلاً من هذه الأخطاء، فقد تفرّدت الأنظمة العسكرية التي هيمنت على حكم البلاد لسنوات مضاعفة، مما أتيح للأنظمة المدنية الديمقراطية، ذاك أن الأنظمة العسكرية جميعاً التي تعاقبت على حكم السودان كانت تظن أن تلك المسألة السياسية القومية هي مشكلة أمن ونظام.
الجنوب.. الوعد المكذوب:
ويقرأ د. منصور خالد موقف الأحزاب من قضية الجنوب فيقول: "في عشية الاستقلال أعلن جنوب السودان بلغة لا مواربة فيها، عبر ممثليه في البرلمان، استعداده ورغبته في إقرار وحدة السودان شريطة أخذ تطلعات الجنوبيين في الاعتبار. عبر عنهم بنجامين لوكي، عضو البرلمان عن دائرة "ياي" في جنوب الاستوائية، عندما طالب في 12 ديسمبر/كانون الأول 1955 بتكوين مؤتمر من كل الأحزاب للاتفاق على أن يتضمن إعلان الاستقلال بياناً يُعلَنُ فيه عن قيام دولة فيدرالية تضم الجنوب والشمال في إطار سودان موحد". ذلك الاقتراح رفضته أحزاب الحكومة والمعارضة على السواء، ولكن رغبة منها في إعلان الاستقلال في البرلمان في أول يناير 1956م، وافقت تلك الأحزاب على إضافة فقرة في إعلان الاستقلال تتعهد فيها بأن مطلب الجنوب بالحكم الفيدرالي "سيؤخذ بعين الاعتبار" في دستور السودان الجديد عند صياغته.."، و"ماذا كان مصير ذلك الوعد الغامض؟" يتساءل د. منصور خالد، ثم يستطرد: "ما أن ناقشت الاقتراح اللجنةُ التي توفرت على صياغة الدستور حتى رفضته باستهانة بالغة، أعلنت اللجنة أنها، بعد إعطاء الاقتراح ما يستحق من عناية، "وجدت أن أضرار الفيدرالية تفوق مزاياها"، ولا شك لدينا في أن الميزان الذي رَجح مضار الفيدرالية على مزاياها ميزان باخس؛ إذ لم يولِ أي اعتبار لمخاوف وقلق الذين طالبوا بالفيدرالية ابتداءً..".
وينقل د. منصور خالد رسالة بعث بها بنجامين لوكي رئيس المؤتمر الجنوبي في 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 إلى الحاكم العام البريطاني ووزيري الخارجية المصري والبريطاني، قال في تلك الرسالة: "إذ تعذرت الفيدرالية فلا مناص من أن ينفصل الجنوب عن الشمال بالطريقة التي انفصلت بها باكستان عن الهند"، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يتحدث فيها سياسي عن حق تقرير مصير جنوب السودان، لكن دون أن تأخذ النخب السياسية السودانية الأمر على محمل الجد حتى ساعة تمام انفصال جنوب السودان في 9 يوليو/تموز 2011.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.