نعيش طيلة الأشهر الماضية على إيقاع أزمة متفاقمة بين حزب العدالة والتنمية وأجهزة السلطة النافذة، ظهرت أكثر ما ظهرت بعد الانتخابات وفي مفاوضات تشكيل الحكومة المتعثرة لحد الساعة، في سابقة لم يشهد لها تاريخ الحكومات المغربية مثيلاً، ما يشير إلى أننا بصدد وضع غير طبيعي بالمرة سببه واضح وجلي للجميع، وهو عدم رضا القصر وحواشيه عن مخرجات العملية الانتخابية الأخيرة، الشيء الذي استلزم معه على ما يبدو الكثير من الوقت لإعادة ضبط المشهد، بما يتناغم مع حسابات سدنة الحكم، أو بالأحرى مع ميولهم واتجاهاتهم النفسية.
المؤكد أن هذا التعثر الذي بات يعرف بـ"البلوكاج" المعيق للسير الطبيعي "للعملية الديمقراطية" ما كان ليحدث لو حملت الانتخابات نتيجة أخرى غير تلك التي حملتها بفوز العدالة والتنمية الكبير على أحزاب أخرى جهزها المخزن لتبوؤ مكانة متقدمة في خارطته السياسية، لكنها سجلت فشلاً ذريعاً في هذا الباب، وهو ما يرسخ عنصر الثقة المفقود من طرف المؤسسة الملكية تجاه الإسلاميين، التي سبق أن كشفت عنها وثائق ويكيليكس؛ حيث لم يشفع للحزب أداء الخمس سنوات الماضية وخدماته الجزيلة للقصر وتنازلاته الفادحة التي خصمت من رصيده وتسببت في طحن الفئات الشعبية بشكل غير مسبوق، لمحو تلك الصورة السلبية عنه لدى من يسميهم بالتحكم.
في الحقيقة مشكلة القصر مع حزب العدالة والتنمية ليست مرتبطة بمواقفه أو ممارساته، فهو لا يشكل أي خطر حالي أو مستقبلي على نظامه، مهما نفخ وأجج البعض في الموضوع، هو الذي نشأ وترعرع على عيني الداخلية وفي أحضانها، وكان ابناً باراً لها لا يرفض لها أمراً، بدليل أن المخزن أمنه على واحد من أهم الملفات هو الشأن الديني، وإن احتفظ بوصايته العليا عليه بطبيعة الحال، لكنه مع ذلك فتح لدعاة حركة التوحيد والإصلاح، الذراع الدعوية للحزب، المجال للتغلغل في مؤسسات النظام الدينية، وهكذا أصبح لديهم حضور وازن في المجالس العلمية، وكذا الأمر في هيئات أخرى بما فيها البوابة الإعلامية الدينية الممثلة في قناة وإذاعة محمد السادس للقرآن الكريم، ناهيك عن الخطباء المنتمين للحركة أو المتعاطفين مع خطها الذين ينتشرون في ربوع مساجد البلاد، بخلاف سياسة الإقصاء والطرد التعسفي لأئمة من توجهات إسلامية أخرى لا تروق للنظام.
هذا إذاً مؤشر مهم لرد الفكرة الرائجة بين الكثيرين المتعلقة بأن جوهر الخلاف المخزني مع الحزب هو منازعته إياه في "شرعيته الدينية"، فيما أن الواقع عكس ذلك، فعلاقة العدالة والتنمية والتوحيد والإصلاح بالمخزن علاقة تبعية ورضوخ تحت ظل "إمارة المؤمنين"، والجدير بالذكر أن ما قدمته الحركة للنظام المخزني لا يقل عما قدمه الحزب له؛ حيث ساهمت في ضخ دماء جديدة في أوساط الجسم الدعوي التقليدي الخامل، وفي إعادة إحيائه من جديد.
من هنا يمكن فهم منطق لوبيات الحكم التي لا ترفض مبدئياً التعامل مع العدالة والتنمية واستخدامه المؤقت في مشاريعها، هي تعترض فقط على اعتماده في الواجهة، حتى لو كان فاقداً للصلاحيات الحقيقية، وما توليه للحكومة في الفترة الماضية إلا فلتة فرضتها حالة الضعف والهلع التي أصابت النظام إبان الحراك العشريني، والتي سعى إلى تداركها وتجنب تكرارها، رغم أنه استفاد من الحزب أيما استفادة، ومرر به عدداً من المشاريع الكارثية، لكنها الخلفية الثقافية والنفسية الفرانكفونية الكارهة لأي نفس إسلامي، التي تسيطر على القصر ومحيطه، والتي لا تتحمل الاستمرار في التعاطي مع أي طرف محسوب على الإسلاميين حتى لو كان من فئة "إسلام لايت".
بُعد آخر يتحكم في الموقف السلبي من العدالة والتنمية ويحدد بالضبط لماذا لا يثق القصر في الحزب وفي أية قوة شعبية سواء عارضته أم والته؟ فالقناعة المتجذرة لدى المخزن المحتقرة لـ"الرعية" وأيضاً الخائفة منها تجعله لا يرتاح للعمل مع القوى التي أفرزها الشعب، وإن لزم الأمر فهو سرعان ما يسعى لإحراق أوراقها حتى يشتغل بأريحية مع الدوائر التقليدية ذات الولاء التاريخي له.
الأمر لا يقتصر على التنظيمات الجماهيرية فحسب؛ بل حتى أعوان المخزن، مهما علا شأنهم، المنحدرون من مناطق شعبية يواجهون نفس المصير عاجلاً أم آجلاً رغم كل ما يقدمونه لصالحه، في رسالة واضحة من النظام مفادها أنه أقوى من الشعب الذي يحكمه، وأنه لا يريد التنازل عن صورته الفرعونية أمام عامة المغاربة.
لذلك فالنظام المغربي ليس مستعداً لتقبل العدالة والتنمية في واجهة الحكم، حتى ولو أُطبقت السماء على الأرض، إن من جهة ماضيه الإسلامي، أو من جهة امتداده الشعبي، والحقيقة الساطعة الآن هي أن القصر بات يستكثر على الحزب لعب أي دور في المقدمة حتى لو كان دور الكومبارس، رغم وضاعته وحقارته، إلا بشروط قاسية للغاية ولفترة محدودة وعابرة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.