“الأزمة السياسية – البلوكاج الحكومي”.. أو عندما تصاب الحقيقة في مقتل!

إن مسعى التغيير من داخل المؤسسات وتحت رحمة سلطوية المخزن وهيمنته السياسية والاقتصادية والدينية وتعنته في إقرار مبدأ فصل السلط، وعدم رغبته في إشراك مؤسسات الدولة المنتخبة ديمقراطياً في التسيير الحقيقي والفعلي لشؤون البلاد هي الأزمة الحقيقية بما تفوت على البلاد من فرص للتغيير الحقيقي والدمقرطة الفعلية التي يأملها المغاربة.

عربي بوست
تم النشر: 2017/01/04 الساعة 04:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2017/01/04 الساعة 04:33 بتوقيت غرينتش

بلغ اللغط الإعلامي ذروته بشأن أزمة تشكيل الحكومة المغربية التي تعيش البلاد على وقعها منذ الإعلان عن حصيلة الانتخابات التشريعية لاقتراع السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فبعد مرور ما يربو على ثلاثة أشهر من موعد الانتخابات، لم يفلح رئيس الحكومة المعيَّن من طرف الملك لولاية ثانية على رأس الحكومة، السيد عبد الإله بنكيران، في مساعيه من أجل تشكيل أغلبية حكومية جديدة.

ولا أدل على خطورة هذه الأزمة السياسية التي تمر بها البلاد، والتي ستكون لها تداعيات سياسية واقتصادية سلبية بفعل تعطيل عمل الحكومة والبرلمان طوال هذه المدة، من الندوة الصحفية التي عقدها بنكيران الأسبوع الماضي، وهو يروي على مضض تفاصيل مشاوراته مع نظرائه السياسيين لأجل تشكيل الحكومة.

إلى حدود اللحظة، لم تؤدِّ مساعي رئيس الحكومة إلى إيجاد مخرج لهذه الأزمة، والبادي أن مساعيه وصلت إلى الباب المسدود، والأنكى، أن جلالة الملك، أعلى سلطة في البلاد، أرسل مستشاريه قبل ثلاثة أيام فقط للقاء عبد الإله بنكيران وإبلاغه رغبة الملك في تشكيل الحكومة في أسرع الآجال، وهو ما يضع بنكيران تحت ضغط حرج وفي وضع لا يُحسد عليه.

المثير للاهتمام حقاً هو الجدل الواسع الذي أثارته هذه الأزمة، والظاهر بجلاء من خلال تضارب القراءات والتأويلات بخصوصها، تتمايز توصيفات أزمة تشكيل الحكومة بين جهة تنعتها بـ"الأزمة السياسية"، وفي ذلك تحامل مبطن ضد رئيس الحكومة وحزب العدالة والتنمية بكونه المسؤول الأول عن عرقلة المسار السلس لسير المؤسسات بعد الانتخابات، لفشله في بناء أغلبية برلمانية وحكومية، وبين من يطلق عليها في الجهة المقابلة توصيف أزمة "بلوكاج حكومي"، من منطلق السعي إلى رفع حرج ومسؤولية بناء التوافق بشأن الأغلبية الحكومية من على عاتق رئيس الحكومة، وبين هذين التوصيفين الأيديولوجيين (الأيديولوجيا بمعناها الماركسي الكلاسيكي من حيث هي وعي زائف)، اللذين تروج لهما إعلامياً أطراف سياسية بعينها في صراعها الدؤوب من أجل السلطة ولأجل استمالة الرأي العام تصاب حقيقة أزمة الوضع السياسي بالمغرب في مقتل.

إن أزمة تشكيل الحكومة بالمغرب اليوم ليست في حقيقة الأمر إلا ظاهراً فوقياً وعرضياً لأزمة بنيوية عميقة من طبيعة النظام المخزني المغربي ونهجه السلطوي في تسيير الدولة، فالمؤسسة الملكية وجهازها المخزني (الدولة العميقة) قد أفلح ومنذ الاستقلال، بالرغم من كل محاولات الإصلاح الحكومية المتتالية على اختلاف تصوراتها الأيديولوجية والسياسية، في إحباط كل محاولة جادة من أجل بناء دولة مغربية بمؤسسات قوية وديمقراطية، ونخب سياسية نزيهة وفاعلة في عملها السياسي، ولا غرو أن يتكرس واقع الأزمات المشابهة وتنتهي كل محاولات الإصلاح من داخل المؤسسات، وفي ظل الهامش الضيق الذي يسمح به منطق السلطة المخزنية إلى الفشل، وتمنَّى كل إرادة شعبية في التغيير الديمقراطي بالهزيمة.

إن الدرس الذي، ولو على بساطته، لم يستوعبه بعد المتهافتون على فكرة الإصلاح التدريجي من داخل المؤسسات، وفي ظل هيمنة المخزن، هو أن مشاريعهم من أجل الإصلاح والتغيير لا تملك القدر الكافي من الخصوبة لتحصد مكاسب سياسية مهمة على قدر طموح الشعب في بناء دولة المغرب النزيهة والديمقراطية الملتزمة بمبادئ الحرية، والمساواة، والعدالة الاجتماعية.

إن مسعى التغيير من داخل المؤسسات وتحت رحمة سلطوية المخزن وهيمنته السياسية والاقتصادية والدينية وتعنته في إقرار مبدأ فصل السلط، وعدم رغبته في إشراك مؤسسات الدولة المنتخبة ديمقراطياً في التسيير الحقيقي والفعلي لشؤون البلاد هي الأزمة الحقيقية بما تفوت على البلاد من فرص للتغيير الحقيقي والدمقرطة الفعلية التي يأملها المغاربة.

ما تلزم الإشارة إليه بخصوص هذه الأزمة، هو أن شخص الملك هو الكفيل الوحيد بحلها إذا ما تعثرت جهود بنكيران في تشكيل الحكومة، خاصة أن الأحزاب الإدارية المشكلة للأغلبية الساحقة في المشهد السياسي دائماً على استعداد للانصياع التام لأمر القصر، إما بالتوافق مع بنكيران ومن ثم تشكيل الحكومة، أو رفض التوافق وبالتالي استمرار الأزمة على ما هي عليه، حتى يتدخل الملك لتعيين شخص آخر من الحزب المتصدر أولاً أو ثانياً في الانتخابات لبدء مشاورات بناء أغلبية حكومية من جديد، أو الإعلان عن انتخابات مبكرة.

وما نشاهده اليوم في مخاض تشكيل الحكومة يوحي بأن القصر الملكي يدفع بشخص عزيز أخنوش، وهو برجوازي بارز مقرب من القصر قدم لرئاسة حزب التجمع الوطني للأحرار بعد الانتخابات، لفرض شروط الدولة العميقة بشأن تشكيل الحكومة، وذلك كما ورد على لسان بنكيران بنفسه، بإقصاء حزب الاستقلال، وهو حزب وطني عريق من الحكومة المقبلة، علماً أن هذا الأخير أبدى رغبة جادة في التحالف مع العدالة والتنمية.

بات واضحاً أن القصر هو الذي يدفع ببعض أحزابه الإدارية، وعلى رأسها حزب التجمع الوطني للأحرار بالخصوص من أجل عرقلة مشاورات تشكيل الحكومة، وبالتالي شل مؤسسات الدولة، وذلك للضغط على بنكيران للقبول بشروط الدولة العميقة، وبناء حكومة شكلية لا تملك حرية قرارها السياسي؛ ليبقى مجال تحكم القصر في المعترك السياسي والاقتصادي والديني والاجتماعي مجالاً محتكراً من طرف القصر من خلال تسيير أحزابه المشاركة في التوافق الأغلبي الذي سيشكل الحكومة بما يتوافق ومنطق الدولة العميقة.

إن الشجاعة السياسية والتزام الوضوح مع المغاربة، فالوضوح هو الحقيقة على حد قول مهدي عامل، يقتضي من النخب السياسية المغربية مصارحة ناخبيهم وعموم الشعب بواقع الأزمة في حقيقتها لا الالتفاف على الواقع بمخاتلات لغوية مداهنة (أزمة سياسية/ بلوكاج حكومي) تثقل قاموسنا السياسي بتعبير إضافي؛ ليخسر الواقع حقيقة جوهرية، فالأزمة السياسية الحقيقية إذاً ليست أزمة حكومة أو أحزاب، بل هي بالأساس أزمة بنيوية من طبيعة نظام المخزن الذي يرفض مشاركته الحكم ومنافسته في مجال السلطة؛ لذلك فهو يسعى لفرض منطقه في الحكم من خلال فرض حكم توافقي وتشكيل حكومة شكلية تستمد شرعيتها من خلال قناع الديمقراطية والانتخابات، بينما يبقى له امتياز الهيمنة واحتكار السلط في الأخير، ومن وراء ستار.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد