تصدير
إن المعرفة هي منار السياسة، وهي مرشدتها، والطلاق بينهما يؤسس لـ"الحربائية"، وتتيه المبادئ ويضيع المعنى والمعقول، وتصبح السياسة حينئذ تابعة لواقع متلوّن ومتغير في نوازله ووقائعه ومستجداته، إذاً تتبدد المصالح العامة للبلاد والعباد، ويضعف التوافد على هذا الشأن العام مشاركةً واقتراحاً ومراقبةً واهتماماً.
فالسياسة لها محاذير، متمثلة في فقدانها لبوصلة المعرفة المرشدة لها، وفي لبوسها لباس الحربائية التي تجعلها دون مبادئ ودون منطلقات، مما يفقد العاملين فيها، بحسب هذا التمثل لها، المصداقية والثقة.
فما هو المفهوم المرجعي للسياسة؟ وما هي المبادئ العامة التي تحفظ تمثيلاً صحيحاً لهذا المفهوم؟
أولاً: مفهوم السياسة
السياسة لغة: من ساس يسوس سياسة، ونقول: ساس القوم، أي: دبرهم وتولى أمرهم (انظر منجد الطلاب دار المشرق بيروت)، وساس الأمر سياسة: قام به، والسياسة: القيام على الشيء بما يصلحه، والسياسة: فعل السائس، يقال: هو يسوس الدواب، إذا قام عليها وراضها، والوالي يسوس رعيته (لسان العرب لابن منظور).
واصطلاحاً: يمكن أن نعتبر السياسة بمثابة تدبير راشد للشأن العام للبلاد، وذلك من أجل:
1- حفظ مصالحه العامة المرتبطة بتنمية قدراته البشرية بغاية:
• أن تكون معتزة بالشخصية العامة للمجتمع هوية وذاكرة وتاريخاً وتراثاً متنوراً مشجعاً على البذل والاجتهاد.
• وبما يؤهلها أن يكون نفعها متعدياً في تحقيق نهضة البلاد وتبويئها مكانة معتبرة على مستوى خدمة البشرية.
2- درء المفاسد الكبرى عنه التي تقضي على الوازع الوطني، وتفكك لُحمة البلاد، وتزرع التواكل داخلها، وتشجع على سيادة منطق المنفعة الشخصية الذاتية والخلاص الفردي، مما يجعل مساحة العطاء التنموي ونفعها العام ضئيلة بالمقارنة مع مساحة الفساد بكل أنواعه المالي والاقتصادي والسياسي والأخلاقي.
ثانياً: في عناصر مفهوم السياسة (المبادئ العامة)
يحيلنا هذا التعريف على عناصر مفهوم السياسة المتمثلة في التالي:
1- أن السياسة هي تدبير راشد للشأن العام، وهذا يعني أن موضوع الاشتغال بالسياسة هو الشأن العام ذو الصلة بكل قضايا المجتمع ثقافياً، اقتصادياً، سياسياً، اجتماعياً، وتنموياً، وأن غاية هذا الاشتغال هي التدبير الراشد بما يحقق أكبر قدر من المصالح العامة للمجتمع مع تجنيب المجتمع أكبر قدر من المفاسد العامة، وفي ذلك تطلع نحو نهضة المجتمع وتنميته وتبوّئته مكانة معتبرة ضمن المجتمعات النافعة.
2- أن هذا التدبير الراشد للشأن العام، هو تدبير تشاركي يسهم فيه كل المجتمع تقريراً وتنفيذاً وتقويماً، وبالتالي ينتفي ذلك المفهوم التقني للتدبير الذي يحصره فقط في التنفيذ التقني الآلي.
3- أن السياسة هي وسيلة في ذاتها لخدمة المصالح العامة، وهي بذلك تمتنع أن تكون مجالاً خاصاً بفئة معينة تحترفه مهنة لقضاء أغراض شخصية أو فئوية، والمصالح العامة ترتبط عضوياً بحفظ ضرورات الاستمرار النفعي أخذاً وعطاء على مستوى البلاد ومحيطها الإقليمي والعالمي، هذه الضرورات التي يمكن عدها في:
• حفظ الهوية التي هي مصدر تميز للشخصية العامة للمجتمع؛ إذ لا وجود له دون أن يتميز عن غيره، ومنه حماية نظام قيمه الكبرى.
• حفظ أهليته الفكرية والثقافية التي هي مصدر عطائه العلمي والتنموي، ومنه تطوير نظامه التربوي والتعليمي والبحث العلمي بما يخدم غاية امتلاك ناصية العلم والعطاء.
• حفظ الحريات ومنها حرية أفراده الشخصية وكرامتهم، وإفساح المجال للحريات العامة ومنها الحق في التنظيم والتشكل لكل التعبيرات المجتمعية المعتبرة المنصتة إلى نبض المجتمع؛ وبالتالي لتعددية مجتمعية تعمق عملية الإشراك الفعلي للمجتمع في التقرير والتنفيذ والتقويم.
• حفظ الكفايات الاجتماعية باعتبارها مصدر الاستقرار الاجتماعي الذي هو شرط العطاء والنهضة، ومنه توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية من سكن وصحة، وكذا ضمان قدرة شرائية في حدها الأدنى الذي يحقق الكفاف، وضمان الحق في الشغل وتكافؤ الفرص وكذا توفير شروط الباءة الاجتماعية بما يحفظ النسل والتصدي لكل المحاولات التي تهدده.
• حفظ المال العام من ثلاثة محاذير شديدة الخطورة على مصالح المجتمع والمتمثلة في: النهب والتبديد والعبثية في إسرافه، ذلك أن المال العام هو حق المجتمع في كفافه والنهوض به ورفاهيته، وإذاً:
فالتصدي لمحاولات نهبه هو من الضرورات المجتمعية الكبرى، والحيلولة دون تبديده هو من الإعلاء من شأن مسؤولية الوازع الوطني في الحرص عليه، ونبذ العبثية في تبديده هو من التشديد في إسرافه في النافع العام بحسب التمييز بين الضرورات والكماليات.
4- أن محور الاشتغال بالسياسة هو الإنسان، من حيث ضمان كفاياته الاجتماعية، كما سبق ذكره، وتنمية قدراته الفكرية والمعرفية، وجعله نافعاً والمادة الخام الأساسية لمشاريع التنمية والنهضة، إن المشتغل بالسياسة حين يكون محور برامجه وخططه هو تنمية الإنسان، تأخذ السياسات العامة وجهة اجتماعية بالأساس، وتتمحور القوانين المالية والاقتصادية والتشريعية عموماً على هذا المحور، فيكون الهاجس هو الموازنات الاجتماعية وليس المالية، ويكون المعيار في فشل السياسات هو النسب والمؤشرات المتعلقة بالتنمية البشرية، وليس التي تنفصل عن هذا المعيار فيضحى هاجسها الأساس ومعيار قياس تنميتها هو النسب والمؤشرات المتعلقة بالعجز التجاري أو المالي الصرف.
ثالثاً: خلاصات عامة
يقودنا الحديث عن مفهوم السياسة إلى تكثيف الخلاصات التالية:
1- أن السياسة هي تدبير راشد للشأن العام.
2- أن غاية الاشتغال بها هو حفظ ضرورات الاستمرار النفعي أخذاً وعطاء على مستوى البلاد ومحيطها الإقليمي والعالمي، ومنه حفظ نظام قيم المجتمع الكبرى الذي هو مصدر تميز شخصيته العامة، وحفظ كفاياته الاجتماعية، وحفظ ماله العام من النهب والتبديد والعبثية.
3- أن محور الاشتغال بالسياسة هو الإنسان تنمية لقدراته في كل المجالات؛ لأنها هي المقدمة الأساس والمادة الخام لتحقيق التنمية الشاملة المستدامة والنهضة المأمولة.
4. أن السياسة تدور حيثما دارت هذه المبادئ العامة التي ذكرناها سلفاً، ولا تدور حيثما دارت موازين القوى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.