اختراق الجيش السوداني
أمدت سنوات السجن المايوي، التي ضمت يس عمر إلى غالب قيادات الاتجاه الإسلامي من الصف الأول والثاني والثالث وكوادر العمل السري وقيادات الطلاب الإسلاميين داخل معتقلات مايو، أمدته بسند وافر وحجة باهرة في مواجهة من سماهم الأكاديميين الرافضين لفكرة اختراق المؤسسة العسكرية بعناصر من الحركة الإسلامية وإعدادهم وتثبتهم داخل وحداتها وصفوفها ينتظرون متحرفين إلى ساعة نُصرة يتحيزون فيها إلى فئتهم، مثّلت تلك اللحظة الساعة التي استطاع الشيخ يس عمر خلالها تشكيل قناعة داخل قيادة التنظيم الأسيرة داخل معتقلات النظام المايوي، قادت من بعد إلى العمل الدقيق لتمام اختراق الجيش بتكوينات عسكرية موالية للحركة الإسلامية، وبتنسيق دقيق تفرغ له أفذاذ من قيادات العمل الإسلامي من المدنيين يصلون نسج تلك الجهود ويوالونها بالتنظيم والترتيب حتى أضحت على النحو الذي أوصلها للسلطة في الثلاثين من يونيو/حزيران (1989)، ولعل ذلك النزع إلى التغيير الجذري الحاسم لدى يس عمر هو ما جسّد ثمة انطباعاً حوله يعتقد كثيرون أنه قليل الصبر على ألاعيب السياسة وفنونها الماكرة الرتيبة، غير مكتمل الإيمان بمقدرة الأحزاب وقياداتها على الممارسة الديمقراطية الرشيدة في الحكم والإدارة.
هدنة المصالحة
مهَّدت هدنة المصالحة الوطنية المسرح لاستقبال تطواف قادة الحركة الإسلامية المتوالية مع الرئيس النميري واتحاده الاشتراكي الذي بدا يس عمر بارزاً ضمن تشكيلاته لكن مهما كانت تحركات قادة الحركة في أنحاء السودان تتم تحت اسم وشعار الاتحاد الاشتراكي، إلا أنها كانت تحمل كل مضامين دعوة الإخوان المسلمين وخطابها السياسي، لا سيما أن الاتحاد الاشتراكي كان فارغاً من أي رؤية أو خطاب خاص به أو بثورة مايو/أيار.
الانتفاضة وسقوط النظام
بعد أقل من شهر من اعتقال قادة الحركة الإسلامية (1985) سقط نظام الرئيس جعفر محمد نميري في أبريل/نيسان 1985 وبعد ستة عشر عاماً من الحكم الديكتاتوري الشمولي، بانتفاضة شعبية قادتها النقابات المهنية واتحادات الطلاب، الذين انخرطوا جميعاً في مظاهرات بدأت في العاصمة الخرطوم، لكنها سرعان ما امتدت لأقاليم السودان، ثم دخلت البلاد كلها في عصيان مدني اضطرت بعده قيادة القوات المسلحة لتسلّم السلطة وإعلان تعطيل الدستور وحل أجهزة الحكم.
الجبهة الإسلامية القومية
شرعت قيادة الحركة الإسلامية فور خروجها من المعتقلات في ترتيب بيتها الداخلي وإحكام تدابير تنظيمها، فبعد ثلاثة أسابيع من الانتفاضة (رجب – أبريل/نيسان 1985) أصدرت قيادة الحركة الإسلامية بياناً نشرته الصحف كافة باسم اللجنة التمهيدية للجبهة الإسلامية القومية ممهوراً بالاسم الأشهر د. حسن عبد الله الترابي رئيس اللجنة.
دعا البيان الملتزمين أهل الولاء القديم في الحركة الإسلامية ومن ورائهم أجيال من غير أهل الالتزام التنظيمي، لكن ولاءهم، اليوم، للإسلام هادياً وحاكماً للحياة العامة، ثم إلى المخضرمين أعضاء جبهة الميثاق الأولى ومن ورائهم كل دعاة الدستور والحكم الإسلامي، ثم توجه بالدعوة إلى أهل التصوف ليرموا بسهمهم في أوبة الحياة كلها إلى الإسلام وإلى جماعة نصرة السنة والسلف حتى يكونوا بعضاً من جبهة الإسلام التي تتجاوز تباين الرأي والاجتهاد؛ ليكونوا جميعاً صفاً واحداً في التحدي الأكبر، ثم إلى أهل المدن والأرياف وإلى نخبة المتعلمين وعامة السودانيين ولو من غير المسلمين، فرحاب الجبهة اليوم يتسع لأهل الملل الأخرى لا سيما الكتابيين الذين يوافقهم المسلمون في غالب الأصول والأخلاق، فدعوة الجبهة الإسلامية القومية هي إلى قيم حاكمة بغير تعصب ولا طائفية.
وإذ تم اختيار الشيخ الترابي فيما يشبه الإجماع أميناً عاماً للجبهة الإسلامية القومية فقد جاء الشيخ يس عمر الإمام تالياً نائباً للأمين العام لدورة أخرى من بعد تجربته نائباً للأمين العام لجبهة الميثاق الإسلامي (1977 – 1983م).
إذاً فقد استهل يس عمر عمله في الجبهة الإسلامية القومية نائباً للأمين العام (يونيو/حزيران 1985) لكن أمراً ذا صلة بصحته الجسدية خلق عنده تصوراً جديداً لذلك الموقع المتقدم في قيادة التنظيم، وإذ مثلت زيارته إلى الولايات المتحدة الأميركية، لأول ابتدار نشاط الجبهة الإسلامية، سانحة رأى فيها آيات الله في الآفاق وأهدته تأملات عميقة للحضارة الأميركية الغربية، فإن ثمّة آية أخرى تملّاها يس عمر وأبصرها في خاصة نفسه حين كشفت الفحوصات الطبية التي أجراها هناك عن اعتلال قلبه الذي تسلل الضعف يدبُ إليه بالأسقام والآلام، فعاد بعبرة أخرى لا يجد بُداً من تقديم عناصر الشباب في الحركة تستثمر فورة الصبا، وشدته استعداداً لقيادة المستقبل فعرف منذئذٍ نصيراً متحمساً لفكرة جيل قيادي جديد من الشباب في الحركة مهما كان يتطلب ذلك أن يهبط هو ذاته في ترتيب القيادة من موقع نائب الأمين العام؛ ليكون محض عضو في صف التنظيم، وهو يترجل نحو منتصف عام (1986) يفسح موقع نائب الأمين العام لقيادة جديدة شابة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.