لم يكن أحمد ذو السنوات الست، وهي تقريباً نفس عمر الثورة السورية، قد اعتاد كمعظم أطفال العالم صوت الهدوء، فمنذ ولادته وهو ينام ليلاً على صوت القنابل، ويصحو صباحاً على وجبة البراميل المتفجرة، التي حصدت الكثير من رفاقه، وحتى من عائلته التي فقدت اثنين من أبنائها هما عمَّاه، ولأنه فتح عينيه على هذا الواقع لم يكن يصدق الروايات التي كان يسمعها من هنا وهناك حول وجود أماكن في هذا العالم يمكن للأطفال فيها أن يلعبوا بهدوء، كان على يقين أن كل أقرانه في هذا الكوكب لا يأكلون إلا وجبة كل ثلاثة أيام، ولا يلعبون في الشارع دون خطر أن يختطفهم صاروخ أو رصاصة، وينامون تحت أسقف تصدعت بفعل الانفجارات القريبة.
كان يتساءل دائماً عمن يقود تلك الطائرات والدبابات التي تدك مدينته، وكان يسمع نفس الجواب دائماً، إنه النظام وجنوده، لم يكن عقله الصغير قادراً على استيعاب الهدف الذي يحققه هؤلاء بقصف منزله، وساحة الحي التي كان يلعب بها، كانت هذه الأسئلة تثقل كاهله الصغير، وكان هو ينقلها بإصرار إلى والدته التي لم تكن تملك أي إجابة قد يتقبلها عقله الصغير، وهل سيتقبل عقله الصغير أن كل هذه الدماء هي قربان لكرسي الحكم؟ هل سيدرك أن كل هذا الجنون سببه العطش للسلطة؟
كانت الوالدة تطمئنه دائماً بأن هذه محنة وستزول، لكن ما كان يراه بأم عينيه أن الأمور تزداد سوءاً، فنسبة القصف زادت عما كانت عليه، وعدد الأطفال الذين كان يسترق معهم بعض لحظات اللعب في ساحة الحي تناقص بشكل كبير، وكلما سأل عن اختفاء أحدهم إلا وكان الجواب أنه ذهب إلى الجنة، بينما كان هو يرى أن مدينته هي جنة بحد ذاتها إذا ما عمَّها الهدوء يوماً ما، لماذا لا يتركوننا نعيش بسلام هنا بدل الإصرار على إرسالنا واحداً تلو الآخر إلى الجنة؟
في الأيام الأخيرة سمع أحمد كلاماً كثيراً عن اقتراب قوارب النظام من فرض سيطرتها كاملة على أحياء حلب الشرقية؛ حيث يسكن هو أسرته، فأدرك خطورة الوضع، وزاد إدراكه لهذا الأمر مع خروج والده من المنزل وعدم عودته، كانت الأم على يقين أن الأب قد قُتل، لم يكن الموت خبراً غريباً؛ بل الغريب أن يتمكن أحد من الخروج والعودة سالماً، في المنزل نفد كل الطعام تقريباً، وشعر أحمد الصغير بأن الحظ الذي أبقاه على قيد الحياة كل هذه السنوات قد أوشك على النفاد أيضاً.
صفارات الدفاع المدني وأصوات آلات الحفر تعم المكان، كان القصف ليلاً كثيفاً، حيث سوَّى المنزل ذا الطوابق الثلاثة بالأرض، كانت الجثث ممزقة إلى أشلاء، لكن جثة صغيرة بقيت واضحة المعالم، الوجه الحلبي الصغير بدا باسماً كعادته، لا شيء يوحي بموته سوى أنفاسه الصامتة، أحمد الآن حر ولعل هذا ما جعله يبتسم، أحمد هزم كل طيور الحرب التي كانت تريد حرمانه فرح الطفولة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.