كعادته أطلق مسعود البارزاني، رئيس إقليم كردستان، قنبلة جديدة لينسف بها كل الاتفاقات التي أبرمها مع العبادي، في تقرير مصير الأراضي التي سيطرت عليها قوات البيشمركة، فالنهج البراغماتي للبارزاني ليس جديداً عليه، فقد فعلها مراراً في تاريخه السياسي الممتد لفترة طويلة، وهو على رأس حزبه الديمقراطي الكردستاني، فلطالما تحالف مع جهات مختلفة نصرةً لأحلامه، بدءاً من تعاونه مع إسرائيل (وهو التعاون الذي ورثه عن أبيه مصطفى البارزاني)، وتعاونه مع إيران ضد الحكومة العراقية في السبعينات من القرن الماضي، إلى تحالفه مع صدام ضد غريمه جلال الطالباني سنة 1996، إلى تحالفه مع الأميركان ضد صدام سنة 2003، ثم تحالفه مع الأتراك ضد بغداد، وبالنهاية يفض اتفاقه الأخير مع بغداد في تحديد مصير مدينة الموصل ما بعد داعش؛ ليتحصن بتحالفه الجديد القديم مع الأميركان، ذلك للوصول إلى غايته بإنشاء دولته الخاصة به، التي ربما ستكون على أربيل ودهوك فقط.
لا انسحاب من الأراضي
صرح البارزاني، في أحدث تطور سياسي له، بأنه قد اتفق مع الأميركان على عدم الانسحاب من المناطق التي حررتها البيشمركة والتابعة لمدينة الموصل، والتي تندرج ضمن المادة الدستورية التي تسمى "المناطق المتنازع عليها"، وهو بذلك يضرب باتفاقه مع حكومة بغداد عرض الحائط، الذي نص على انسحاب قواته من تلك المناطق حال إتمام تحرير الموصل، فهو بذلك يتنصل من اتفاقاته قبل أن يتم تحرير الموصل.
وعملياً شهدت الأيام الأخيرة نكوص العمل العسكري لقوات البيشمركة، التي هي مشغولة الآن بحفر الخنادق التي ترسم من خلالها الحدود المفترضة لدولتهم الكردية القادمة، ووجدت حكومة بغداد نفسها تقاتل داعش وحدها في الموصل مع ميليشياتها، فبعد مرور شهر واحد من بدء المعارك دفعت ثمناً باهظاً من أرواح مقاتليها.
فض تحالف الأضداد
ينفض تحالف الأضداد الذي تم تشكيله بين كل تلك القوى التي لم تتوحد إلا في عداوتها لداعش، وستلعب داعش جيداً على انفضاض هذا التحالف، فقد أفادت المعلومات التي ترد من الموصل بأن القوات الحكومية، وبعد مرور شهر من المعارك، لم تستطِع سوى الاستيلاء على ثلث الجانب الأيسر لمدينة الموصل، مما يعني أن القوات الحكومية ستحتاج إلى وقت طويل يمتد لشهور كثيرة لإكمال مهمتها بالاستيلاء على الموصل بنجاح، وعلى شرط بقاء زخم المعركة كما هو الآن، والجيش والميليشيات على نفس الروح المعنوية التي بدأت بها معركتها، وهذا ما نشك فيه كثيراً، فقوَّات الجيش والميليشيات وبعد مرور شهر من المعارك أصبحت تشعر بالإنهاك من هذه المعركة.
احتمالية وقف معركة الموصل
ربما سوف تتوقف تلك المعارك قريباً، فقد صرح قائد جهاز مكافحة الإرهاب الفريق عبد الغني الأسدي بأن المعارك تم وقفها بسبب سوء الظروف الجوية، وهو مبرر يعكس حالة الإنهاك التي تعاني منها القوات الحكومية؛ ليتسنى لها أن تلتقط أنفاسها بسبب حجم الخسائر الكبيرة التي تكبَّدتها لحد الآن، وحتى لو استأنفت القوات الحكومية قتالها فإنها لن تتجاوز الجانب الأيسر، وستدخل المعارك بعدها في مرحلة هدوء طويل قد يستمر لشهور.
البارزاني يستغل ضعف حكومة بغداد
كل هذا يعلمه الأكراد، ويعتبرون أن الوقت الحالي هو الفرصة المناسبة لاستكمال متطلبات إعلان الدولة الكردية، سواءً برضا بغداد أو عدمه، مستغلاً التأييد الأميركي والإسرائيلي لها، فحكومة بغداد الآن في أضعف حالاتها، ومما يضعف موقف الحكومة العراقية هو بوادر الانشقاقات التي تلوح بالأفق بين الميليشيات التي تعتمد عليها الحكومة العراقية كثيراً في حفظ نظامها، فأحداث ديالى والصدام المسلح الذي حدث بين ميليشياتها قبل أيام، يهدد بتطور الأمور هناك، وربما ستكون الشرارة التي ستحرق الميليشيات نفسها بها، وتحرق معها النظام السياسي الطائفي الموجود في بغداد.
عَمِل البارزاني أيضاً على ضمان موافقة العرب السنة في الموصل من خلال اتفاقاته مع النجيفي، ويريد الأخير دعم الأكراد في تشكيل الإقليم الموصلي، وهو عكس ما اتفقت عليه حكومة بغداد مع الأكراد، للحيلولة دون مساعدة العرب السنَّة لإعلان الموصل إقليماً بعد تحريرها من داعش، وقد يتطور الأمر بالحكومة العراقية للحد الذي يجعلها تؤجل معركتها مع داعش للحيلولة دون إعلان الموصل إقليماً غير خاضع لها؛ لكيلا تخرج من معركة الموصل وبعد كل هذه التضحيات؛ لتصبح الموصل تحت النفوذ التركي.
البارزاني ولعبة التوازنات
لعب البارزاني بذكاء لضمان عدم اعتراض تركيا على إعلان دولتهم، من خلال إعطاء الوعود الغليظة للأتراك بمحاربة حزب العمال الكردستاني على الأراضي الكردية، بالإضافة إلى رهن النفط والغاز الكردي والاقتصاد الكردي للأتراك لضمان سكوتهم وتأييدهم لتلك الدولة الكردية الناشئة، إلا أننا مع ذلك نشك بموافقة تركيا على الطموحات الكردية، وهي التي تنظر بحذر شديد لتلك الطموحات؛ لأنها تهدد أمنها القومي بالصميم، فحزب العدالة والتنمية التركي متحالف الآن مع حزب الأمة التركي المعروف بتطرفه القومي ضد الأكراد وطموحاتهم الانفصالية.
المنطقة مفتوحة لكل السيناريوهات
الساحة العراقية معقدة جداً، وبالأخص ما يتعلق بموضوع المعارك الحالية بالموصل، ومن الصعب التكهن بسيناريوهات يمكن أن نتنبأ من خلالها بمستقبل المنطقة، وسوف تؤثر على رسم تلك السيناريوهات عوامل كثيراً، مثل تطورات المعارك الحالية الآن في الموصل، والمدى الذي ستتغير فيه السياسة الأميركية الجديدة بالمنطقة، إضافة إلى ردود فعل كل من إيران وتركيا إزاء الأحداث التي تجري في العراق.
إن نجاح الأكراد بإعلان دولتهم ليس هو نهاية المطاف، إنما هو بداية ربما لمعركة جديدة، وهذه المرة قد تكون بين الأكراد والعرب، وقد يتطور الأمر لمعارك كردية – كردية، إذا ما حرَّكت إيران مواليها من الأكراد الموجودين بالسليمانية، ناهيك عن حرب الميليشيات التي تلوح بوادرها بالأفق، وسوف تستغل داعش كل هذه الحروب المحلية؛ لتعود لنا بثوب جديد ومسمى جديد؛ لتزيد من لهيب النار المشتعلة، إن البارزاني مقدم على فتح باب من نار، ربما سيكون الأكراد حطباً لها.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.