عشنا على مدار الأيام الماضية جدلاً يحمل في طياته الكثير من المتناقضات، وإن كان لمتناقضات عراق اليوم منطقها الموقعي، غير أن ما حملته قضية "الانتخابات الأميركية" من بعد سياسي واجتماعي على المشهد العراقي، أظهرت عن حجم الاختلاف المركب حيال قضايا كبيرة كانت أم صغيرة.
حيث بدا أن بعض العراقيين يقولون شيئاً إذا كانوا في حضرة نخبهم، لكنهم يقولون شيئاً آخر إذا كانوا فيما بينهم، كذلك النخبة -سنية كانت أم شيعية- يتكلمون بطريقة إلى جمهورهم، هي غير الطريقة التي يتحدثون بها فيما بينهم.
ربما كان بالإمكان أن تحسب هذه القضية على أنها من أقل القضايا التي تحمل بعداً طائفياً، لكن القضية برمتها أظهرت لنا العكس، فقد كشفت عن تركيبة المجتمع العراقي المختلف والمنقسم على نفسه.
ففي الوقت الذي يدعي فيه "وطنيو العراق" بالترحيب بأي تغيير في سياسة أميركا لإقصاء دور الدول الإقليمية المؤثر في القرار الأمني والسياسي في العراق، إلا أن النخبة الشيعية -التي تأمل بإقصاء دور تركيا والسعودية- نظرت إلى ترامب بنفس الطريقة التي تنظر فيها النخبة السنية لأي تحول ممكن يطيح بدور نظام الولي الفقيه الفاعل والمؤثر في العراق.
أما النخبة السنية فهم في وقوفهم مع تطلعات ترامب لإفشال الاتفاق النووي مع إيران والحد من نفوذ ميليشيات الولي الفقيه على سبيل المثال قدموا صورة لما ستفعله النخبة الشيعية للدفاع عن دور النظام الإيراني، ليس في العراق فحسب، بل في المنطقة بأسرها، في حال تهديده فعلاً.
نجحت طريقتي نجاحاً كافياً بالنسبة لأغراضي المحدودة، لكي أبرهن أننا نعيش قمة النفاق الوطني، وأن هؤلاء جميعاً شامتون بأوباما ليس من أجل وطن تتنازعه دول الجوار، بل حرصاً على مصالحهم المرتبطة بتلك الدول نفسها، ولكن السؤال: هل هذا صحيح؟ أم أن كل مَن يتبع النفاق أسلوباً يريد أن يقنع؟!
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال دون فهم الخلاف الذي حصل بين حكام بغداد وبين إدارة أوباما، فأغلب انتقادات واعتراضات الطبقة السياسية الحاكمة على سياسات أوباما تجاه العراق تصب في اتجاه واحد وهي، أن أميركا تأخرت بالاستجابة لنداءات الاستغاثة التي أطلقتها حكومة المالكي بعد سقوط الموصل، وهذا صحيح.
نعم أميركا لم تفِ بالتزاماتها وفق الاتفاقية الأمنية معها، لكن من أخل بالاتفاق بالأساس هي بغداد أصلاً، حين ضرب المالكي عرض الحائط كل التزاماته بالنظام "الديمقراطي الاتحادي الدستوري" الذي وضعه الأميركان قبل رحيلهم في أواخر 2011.
توهم صانع القرار في بغداد حين ظن أنه باستطاعته ابتزاز أميركا، عندما وضعها بين خيارين، إما أن تقبل بالمالكي -المدعوم إيرانياً- كشريكٍ وحيدٍ بعيداً عن كل اللاعبين المحليين، أو سقوط العملية السياسية التي أسسوها بالعراق. وتوهم أكثر عندما ظن أن باستطاعته اللعب بورقة داعش لابتزاز شركائه من جهة وتصفية خصومه السياسيين أيضاً من جهة أخرى.
المالكي في وقتها دك صدره، وأراد من أميركا فقط أن تدعمه وتعطيه السلاح، حتى يكون جنديهم بالمنطقة، لكن بالمقابل فرضت شروطها ووضعت إملاءاتها على صانع القرار السياسي والأمني، طبعاً وفق مصالحها بالمنطقة لا غير.
بالنهاية لم يتشكل التحالف الدولي لمحاربة داعش إلا بعد ما تنحى أو نُحي المالكي عن السلطة، الشرط الذي رحبت به أطراف من داخل مؤسسة الحكم، والتي كانت ترى في بقاء المالكي تهديداً صريحاً لنفوذها داخل هذه العملية السياسية البائسة، ولهذا اليوم أغلب الطبقة السياسية والنخبة التي تدور في فلكها تحاول التزلف والتملق إلى ترامب ليس خوفاً منه فحسب، بل نكاية في أوباما أيضاً، في محاولة لإنجاح تجارب ثبت أنها فاشلة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.