في ذكراه الثالثة عشرة: ياسر عرفات الزعيم الذي أبكى الرجال

تمر علينا هذه الأيام ذكرى أليمة على قلوبنا، الذكرى الحادية عشرة لرحيل صاحب الكوفية، سيد الثوار أبو عمار، فقد بكى غصن الزيتون الأخضر على رحيله، وبكت فلسطين، وبكى الأقصى، وبكت زهرة المدائن ألماً على فراقه.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/22 الساعة 03:19 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/22 الساعة 03:19 بتوقيت غرينتش

"لن يكتمل حلمي إلا بك يا قدس" وقفتُ بجانب تلك اللوحة الكبيرة في ذلك الصباح البارد، قرأت الفاتحة، وترحمت على روح الشهيد ياسر أبو عمار أنا وجميع الموجودين هناك، وتأملت صورته وهو يرتدي بزته العسكرية وكوفيته المعقودة ويحدّق بعينيه إلى القدس، حقاً شرد ذهني لدقائق في كل الأشياء الجميلة التي ارتبطت معها إنشاء وتعليق هذه اللوحة في ذلك المكان.

فهذه مقولة الراحل أبو عمار مكتوبة على لوحة عملاقة رُسمت عليها صورته وهو يرتدي الزي الزيتي "الكاكي" والكوفية، وبجانبه القدس الشريف، والموجودة في ساحة الجندي المجهول بشارع عمر المختار بمدينة غزة.

أُنشئت تلك اللوحة منذ قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية إلى غزة وهي تعني الكثير لأهالي القطاع، فقد أصبح مكانها معلم تذكاري، كونها تلفت انتباه جميع المارة وتستدعيهم أن يقفوا احتراماً وتقديراً لرجل زرع المحبة، ونثر الورد في قلوب أبناء شعبه، وهي ما بقي لنا بغزة "من ريحة الغالي"، كما كان هناك أطفال كثيرون موجودون يلهون تحت هذه اللوحة وبين الأشجار الخضراء ويهتفون: "بالروح بالدم نفديك يا أبو عمار"، أمطرت السماء علينا ونحن واقفون نتأمل هذه اللوحة، فهي أمطار الألم لرحيل الأب والمعلم.

اختلطت دموعي بحبات المطر حزناً على رحيل رعد الثورة، وأسطورة هذا العصر في هذا الزمان الذي قلَّ فيه الرجال، وبعد أن اشتدت الزخات حملت أمتعتي وذهبت، ولكن بقي ذهني مشغولاً بتلك اللوحة، وبالحلم الذي لم يكتمل بعد.

تمر علينا هذه الأيام ذكرى أليمة على قلوبنا، الذكرى الحادية عشرة لرحيل صاحب الكوفية، سيد الثوار أبو عمار، فقد بكى غصن الزيتون الأخضر على رحيله، وبكت فلسطين، وبكى الأقصى، وبكت زهرة المدائن ألماً على فراقه.

تعتصر قلبي الدموع كلما تذكرت المشهد الذي لم يفارق ذاكرتي أبداً، وهو قبلات الخالد أبو عمار من باب الطائرة المروحية بمقر المقاطعة بمدينة رام الله، عندما ذهب لرحلة العلاج إلى عمان، ثم إلى باريس، وكان يرتدي زيه الزيتي "الكاكي" وقبعته الشتوية، ويرسل لمودعيه القبلات في الهواء، ويلوح بيده من أعلى الطائرة، فلم يكن يعلم أنها ستكون لحظات الوداع الأخيرة والقبلات الأخيرة والنظرات الأخيرة لشعبه الذي أحبه.. حقاً مشهد من الصعب نسيانه مدى الحياة، فقد أبكى الآلاف من العالم.

فقد عاد لوطنه محمولاً على الأكتاف بالتابوت الملفوف بالعلم الفلسطيني؛ حيث وُوري جثمانه الثرى في مدينة القدس التي أحبها، وطلب أن يدفن فيها، وحرم أهالي قطاع غزة من إلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه.

أذكر عندما كنت في العاشرة من عمري حملت علم فلسطين وخرجت أنا وإخوتي مع أبي وأمي والجيران ذاهبين لاستقبال أبو عمار عام 1994م، عندما عاد إلى أرض الوطن بعد 27 عاماً قضاها في المنفى، كما خرجت غزة عن بكرة أبيها لاستقباله، وكانت مظاهر البهجة والفرح تملأ المكان، وما زلت حتى اليوم أحتفظ بصور تذكارية لي مع إخوتي خلال مشاركتنا احتفالات الاستقبال، فقد كانت أياماً رائعة محفورة بذاكرتي، وسأقُصها على صغاري عندما يكبرون، وما زالت تحضرني الآن الفرحة الكبيرة التي كانت على وجوه زميلاتي ومعلمتي وأنا في الابتدائية، عندما قالت لنا المعلمة: اليوم سيرجع الختيار أبو عمار لوطنه وأرضه ومعه سلطتنا الوطنية الفلسطينية، أذكر حينها سألتها ماذا تعني السلطة؟

ستبقى كلماته خالدة وراسخة في قلوبنا وعقولنا للأبد والتي أصبحت جزءاً من حياتنا اليومية، ونرددها في كل المواقف التي تصعب علينا، فنستذكر أجمل ما قاله: "يا جبل ما يهزك ريح، لا تهتفوا لي، بل اهتفوا لفلسطين والقدس بالروح بالدم نفديك يا فلسطين، ع القدس رايحين شهداء بالملايين، ليس فينا وليس منا من يفرط بذرة تراب من تراب القدس وفلسطين، سيرفع شبل من أشبال فلسطين أو زهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق كنائس القدس ومآذن القدس وأسوار القدس الشريف، هذا الشعب شعب الجبارين لا يعرف الركوع إلا لله تعالى بس ساعة الصلاة، يريدوني إما طريداً وإما أسيراً وإما قتيلاً، لا أنا بقول لهم شهيداً، شهيداً، شهيداً، القدس عاصمة دولة فلسطين الأبدية، واللي مش عاجبه يشرب من بحر غزة، يرونها بعيدة ونراها قريبة، وإنا لصادقون، وإنها لثورة حتى النصر، حتى النصر، حتى النصر"، وبإذن الله سوف تتحقق كلماته، وسيرددها من بعدنا الأجيال القادمة.

شاهدت على شاشة التلفاز قبل أشهر عرضاً عسكرياً للطائرة الخاصة بالراحل الغالي أبو عمار، كم تمنيت أن أراه يصعد على سلمها ويقودها، ويحلق فوق بحر غزة، فهذه الطائرة التي رافقته في رحلة العودة إلى أرض الوطن وحلق بها مراراً في السماء، والآن في ذكرى وفاته روحه تحلق بيننا.

فهو الأب الحنون، كان يساعد كل المحتاجين والفقراء، وهو المعلم، ورمز للبطولة والفداء لكل شعوب العالم، وهو من علمنا التضحية من أجل الوطن وفلسطين، وهو الرقم الصعب في المعادلة، وهو أيقونة النضال والكفاح، فقد عاش بطلاً، ومات بطلاً، وبقي وفياً لقضية القدس واللاجئين والأسرى مدى حياته.

وفي نهاية مقالي تحضرني الكثير من الكلمات، ولكن سأكتفي بأن أقول: أبا عمار.. لن ننساك، ولن تنساك فلسطين، ولن تنساك الأجيال القادمة، وبإذن الله سيرفع شبل من أشبالنا أو زهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق مآذن القدس وكنائس القدس، وستبقى خالداً بقلوبنا، وستبقى الحاضر الغائب رغم مطر الدموع والألم بعد رحيلك، وبإذن الله تعالى سنحقق حلمك الذي لن يكتمل بعد.

وهنا سقط القلم من يدي، وإذ بي أردد في ذهني "نموت وتحيا فلسطين".

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد