أشارت إليه كلّ أصابع الاتهام تُحمّله مسؤولية ما آلت إليه الأمور، نالت الأفواه من همّته المتقاعسة ومن روحه المتخاذلة ونفسه شديدة التّعلّق بلوم الآخرين، والمعتادة على الشّكاية من الظّروف والبيئة المحيطة.
أثقلت عليه بضرورة صمّ الآذان عن كلام النّاس، أشاحت بوجهها عن طريقه الوعر؛ لتتركه يتعثّر ويُقذف بألسنة من لهب وسياط من عذاب تنخر في روحه وتقتات على آماله وتطلّعاته، وزعمت أنّها مسؤوليّته وحده التّصدّي لها ومحاربتها.
أي أكذوبة تلك التي تُطالبنا بعدم الاكتراث بكلام وتقييم الآخرين لذواتنا وأدائنا؟! كم كلمة سمعناها خلّدت فينا جروحاً لا تلتئم؟! كم كلمة أضرمت في قلبنا الحماس وألهبت مشاعرنا؟! كم كلمة سرت قشعريرة في جسدنا حالما ذابت فينا؟!
ليس حقيقيّا البتّة أنّ الدّافعيّة الدّاخليّة تفي بالغرض، وأنّ نظرتنا لأنفسنا عليها أنْ تُغنينا عن نظرة الآخرين لنا، تلك الصّفحة البيضاء لا تعرف حتّى فترة زمنيّة طويلة قادمة سوى ما خطّته أنامل الآخرين عليها، ولن تتمكّن من تمييز حقيقة ما هي عليه أمام تقييمات المحيطين من حولها بسهولة.
لم تُخلق قادرة على تقييم نفسها ومنحها ما تستحقّه من تقدير وإنما تعلّمته، وإلى حين حدوث ذلك، فهي تجني قيمتها من الآخرين وتقديراتهم على نحو واعٍ وغير واعٍ.
تلك التّقديرات المكتسبة تعمل بطريقة معقّدة ومخيفة؛ إذ تنسل إلى الأعماق؛ لتصير جزءاً لا يُستهان به من شخصيّة الإنسان، وبنيته المعرفيّة والنّفسيّة وذات دور بارز في توجيه دفّة سلوكياته وحياته بأكملها.
جهد جهيد يبذله كل مَن حاول أن ينسلخ من قشور التّقييمات الزّائفة التي ألصقها به الآخرون خلال مختلف مراحله العمريّة!
نحن نولد أنقياء من تلك التقييمات، وما تلبث أن تسبر أعماقنا، ومن ثمّ نبذل جهوداً مضاعفة كي ننسلخ منها.
أنْ يتمكّن من التّخلّص من التّقييمات التي صارت جزءاً منه، أن ينخلع من ذاته المكتسبة ليجد تلك الدّفينة المنتبذة، ليس بالأمر الهيّن أن يكتشف المرء حقيقة ما هو عليه ويقدّر ذاته على النّحو الصّحيح.
ولأن تقييم الذّات الإنسانيّة يكتسبه الإنسان بادئ ذي بدء من المحيط والبيئة الأولى ألا وهي الأسرة، فما الذي يتوجّب علينا فعله إزاء ذلك؟
أن نهمس في أرواحهم أنهم قادرون، قادرون على ما نحن عن تخيّله عاجزون، أنّ عليهم الاستعانة بمخيّلتهم أكثر من الخلفية القاتمة التي نصنعها لهم، أن يتّكئوا على قدراتهم وإمكاناتهم الكامنة التي يستطيعون هم وحدهم تمييزها وتقدير قوّتها من ضعفها.
الأمر أكثر إيلاماً من مجرّد دعوة تنشد الآباء والمحيطين إلى إغراق أطفالهم بالكلمات الدّاعمة والتحفيزيّة الشّحيحة للغاية، إنّها صرخة تستفزّ كلّ ما يحملون من معاني الإنسانيّة أنْ يتوقّفوا عن ترديد كلماتهم الملوّثة الهادمة المحطّمة، المُقيّمة على نحو سلبيّ، المانحة لهويّة مشوّهة، التي تُضفي تقييمات واهنة لنفوس أطفالهم، تلك التي لا تتوقّف على اختراق مسامعهم، بل تنفذ لإحداث شرخٍ في أرواحهم ودمار لكيانهم الشّخصي وردمٍ لقدراتهم وطمسٍ لثقتهم بأنفسهم.
هل يمكن أنْ يكون تأثير هذه الكلمات بهذه القوّة حقيقة؟ هل من الضّروري للغاية أن يقف الوالدان والمربّون على كل كلمة وحركة ونظرة يتفحّصونها قبل إصدارها ويتيقّنوا من نقائها والعمل على غربلتها قبل إرسالها إلى عقل ونفس الطّفل المتلقّي؟!
للأسف نعم وبشدّة.
الانتباه العفوي الذي لا تُلقي له بالاً يشكّل تدعيماً عفويّاً لسلوك الطّفل، وتقييماً لشخصه في موقف ما عابر لم تلحظ مروره أصلاً، ولا يتوقّف الأمر هنا، فعلى المربّين يقع كامل المسؤوليّة في مساعدة النّاشئة على فهم ذواتهم والاستبصار بإمكاناتهم وجوانب القوّة والقصور في شخصيّاتهم، أن يصلوا بهم لمرحلة فهم عميق لدورهم الإنساني على هذه البسيطة لا أنْ يظلّ دوراً مبهماً يكتنفه الغموض، ليدخلوا على أثر ذلك في طور الاغتراب النّفسي الحقيقي.
تقييمات الآخرين مهمّة، فكلمة واحدة قد تُحيي، وكلمة قد تُميت؛ تُحيي المعاني السّامية، وتستفزّ الإمكانات الدّاخليّة الدّفينة أو تقتلها، كلمة تقرّبنا إلى ذواتنا؛ لنلتحم بها ونصير أكثر قوّة وجرأة وثقة، وكلمة تُحدث شرخاً واضحاً وتفصلنا عن ذواتنا لنتوه طويلاً؛ بل وتقلب وجه الحقيقة لتصيّره على نحو مختلف.
قد تصل النّفس إلى مرحلة يختلط عليها الأمر، ولا تكاد تميّز وجه الحقيقة الذي تمّ تزييفه؛ لتظلّ أسيرة تقييم زائف يفتقر لأدنى مقوّمات الحكم السّليم المبني على أدلة علميّة ومنطق سليم، وحتى تجربة كافية مستوفاة الشّروط.
كانت أول مرة أشارك في مسابقة كتابة المقال على مستوى المملكة الأردنية، كنت بالصّفّ العاشر، حصلت حينها على المركز الأول.
إحدى زميلاتي في الصّفّ طلبت منّي أن تحصل على المقال لمدّة يوم واحد، كان والدها طبيباً عامّاً معروفاً في المنطقة التي أسكُنها، أعطيتها إيّاه لتعود لي به في اليوم التّالي.
– قرأته وبابا قرأه، جميل المقال بس مش انت اللي كتبتيه.
وأعطتني المقال وظهرها بسرعة دون أنْ تلفظ كلمة واحدة أخرى، وولّت فيّ إشارة إلى أن منحي أي فرصة للتبرير هو إضاعة لوقتي ووقتها ليس إلّا.
اضطررت على أثر ذلك ولأنّي سمعت كلمة مشابهة عابرة غير مقصودة قبل أيام في المنزل، أن أسأل نفسي حقيقة: هل أنا من كتبته بالفعل؟!
لا أُخفي أنّ شكّاً عميقاً اجتاحني كاد يطغى على الحقيقة الواضحة وضوح الشّمس في منتصف الظّهيرة!
ربّما أنا الآن أشدّ فخراً بتلك الكلمات التي سمعتها، أنا أوقن أنّها أكثر جمالاً وثِقلاً من كومة شهادات التّقدير التي حصّلتها تِباعاً على مختلف مراحل المنافسة اللاحقة، لكن هذا لا ينفي أنّ أثرها كان "ولفترة ما ريثما تحرّرت من ثقلها" ذا تأثير قوي مُشلّ.
في أحسن الأحوال قد لا تُميت تلك الكلمات الإمكانات، لكنها تُعرقل التّقدّم وتُؤخّره؛ لأن عمليّات إصلاح التّشويهات الحاصلة يستلزم وقتاً ليس بالهيّن.
الذين يصلون لمرحلة وعي كافٍ بحقيقة ذواتهم والانعتاق من ربقة التّقييمات المجتمعية المجحفة يتكلّفون الكثير من العناء والوقت، وقد يصلون وقد يتعثّرون.
أنت لا تنفخ في "قربة مخزوقة"
هذا الكائن البيواجتماعي شديد الحساسيّة في التّفاعل مع المحيط والبيئة، وكل شاردة وواردة ومدخلة ترد إلى ذهنه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.