مع كل مأساة تحصل في الوطن العربي، يعبّر الناس عن سخطهم واستنكارهم بالطريقة التي يخوّلها لهم القانون. مع هذا الاستنكار والاحتجاج، تظهر فئة تحاول توهيم المتظاهرين والمحتجين أن الانتفاضة على الأوضاع فتنة تحوّل البلد إلى خراب، كما حصل في بعض الدول العربية.
وطبعاً، هذا يجعل الناس تخشى من الثورات التي حولت العديد من الدول العربية إلى خراب وأصابت الشعوب الباحثة عن الكرامة والعدالة الاجتماعية إلى شعوب متشردة وضائعة ومهجّرة من الأوطان، والمستبد يُرهب الناس بهذا السيناريو ويجعلهم بين نارين: إما الاستبداد وإما الخراب. فلهذا، يجب أن نقول:
أولاً: الاحتجاج والتظاهر لا يعنيان ثورة أو إسقاط الأنظمة. والدعوة إلى الثورة في الوقت الراهن قد تجر البلدان إلى ما لا يحمد عقباه وإلى مفاسد كثيرة، وهذا لا يقول به عاقل اليوم، لكن لا يعني ذلك السكوت عن الظلم والاستبداد والطغيان وعدم احترام كرامة الإنسان وحقوقه؛ بل إن الاحتجاج والتظاهر الوسيلة الأكثر نجاحاً اليوم للضغط على المنتهزين والمحتكرين زمام الأمور.
ثانياً: إلباس التظاهر والاحتجاج ثوب الفتنة، هو طريقة يستخدمها صنفان من الناس؛ واحد مستفيد من المفاسد والظلم المنتشر في الأوطان العربية والإسلامية، وعليه فإنه إذا استنكر وتظاهر الناس على الفساد والطغيان فسيفقده مكانته وما يتمتع به من تسلط وعدم محاسبة ولا متابعة. أما الصنف الثاني، فيلبسه ثوباً دينياً بحكم أن الرسول الكريم أوصانا بالصبر على الظالم عدم الاحتجاج عليه.
وهنا، يجب أن نقف على التعريف والفهم الصحيح للفتنة في القرآن والسُنة وعند علماء الأمة: جاءت الفتنة في القرآن الكريم والسنة في مواقع متعددة وبمفاهيم مختلفة، وقد يفسر البعض الفتنة بالمعنى ونقيضه. وهنا، نقف مع قول الله تعالى: "ومنهم من يقول ائْذن لي ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا" (التوبة 49). تحدث علماء التفسير أن أسباب نزول الآية كانت في أحد المنافقين قال لرسول الله: ائذن لي ولا تفتني، فرد عليه القرآن بأن فعله هذا هو عين الفتنة. والأمر نفسه الذي يحاول هؤلاء اليوم أن يلبسه إلى المتظاهرين والمحتجين، ولعل سكوتهم على الظلم والاستبداد والمنكرات ما ظهر منها وما بطن هو عين الفتنة.
وهنا، يجب أن نقف عند تعريف الفقهاء للفتنة، حيث ذكر الأزهري أن "الفتنة: الابتلاء والامتحان". (تهذيب اللغة 14/296).
وقد لخص ابن الأعرابي معاني الفتنة بقوله: "الفتنة بالاختبار والمحنة وفتنة المال وفتنة الأولاد وفتنة الكفر". (لسان العرب لابن منظور)
وهنا، يتبين الفهم الشاسع لمفهوم الفتنة عند علماء اللغة، وقد تكون الفتنة في تغييب أحكام القرآن كقوله تعالى: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك". (المائدة: 49).
وتكون الفتنة في استباحة الكفار لبلاد المسلمين: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله" (البقرة: 193)، وقد تكون الفتنة في نشر المعاصي والمنكرات كقوله عز وجل: "إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق" (البرج: 10).
وقد وردت الفتنة في الكثير من المواضع الأخرى في نصوص من القرآن الكريم،
لكن هؤلاء يتركون كل هذا ولا يحركهم إلا شيء واحد: احتجاج الناس ضد الظلم والفساد والقهر.
ألم يكن علماء الإسلام ينكرون كل الظلم والطغيان عبر مرور الزمان ؟ بل إن الصحابة والتابعين خرجوا على الظلم كما هو الحال مع سيدنا الحسين رضي الله عنه وسعيد ابن الجبير الذي قُتل وكل أهل الأرض محتاجون إلى علمه، وكذلك إمام أهل المدينة مالك ابن أنس الذي أنكر على سلطان المدينة زواج المكرَه حتى ابتلي في ذلك ابتلاء شديداً، بالإضافة إلى الإمام أحمد ابن حنبل في فتنة خلق القرآن، ولعل زماننا هذا فيه من المظالم والفتن ما يفوق تلك العصور بكثير.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.