أعادت قضية مقتل بائع السمك الشاب المغربي محسن فكري بمدينة الحسيمة -شمال المغرب- للواجهة الحديث عن الكثير من المفاهيم التي ترتبط بالأنظمة العربية وثقافتها السياسية، وللأسف يأتي مقتل الشاب بعد فصل كامل من الربيع الديمقراطي الذي عاشته مختلف الدول بعد إحراق البوعزيزي نفسه بتونس، فمقتله يدق ناقوس الخطر وينبه إلى عودة ممارسات اعتباطية مرتبطة بما كان قبل دستور 2011م، والذي حاول القطع مع الكثير من الممارسات المخزنية التقليدية السيئة، والتأسيس لسلوكيات سياسية وأمنية جديدة مبنية على احترام كامل لحقوق الإنسان.
وهذه القضية بالذات تفرض علينا إعادة التساؤل عن مدى تداخل مفاهيم المواطنة بالممارسة السياسية وتدبير الشأن العام، وما الذي يحصل لكي يقع كل هذا اللبس بين مفهوم كرامة المواطن وهيبة الدولة في أعين من يمارس السلطة؟
إن البحث عن ثقافة الاعتراف في سياق الصراع الدائر بين الأنظمة السياسية والأفراد يجعل دائرة الاشتباك تدور بين مفاهيم كثيرة تنمو وتتضخم كلما احتدم الاحتكاك بين رمزية الأنظمة المتصلبة وطموح الأفراد المتحرر، بطبيعة الحال لا مجال للمقارنة بين قوة أو ضآلة، تداخل أو تباعد قدرات كل طرف على آخر.
ويكتسب المجتمع المدني فاعليته وقوته من خلال قدرته على تشكيل جدار الدفاع الأول ضد الاستبداد أو ظلامية المقولات الطارئة على الحراك الثقافي والقيم الاجتماعية، حتى لا تهدر المكتسبات الحقوقية والسياسية وغيرها، وأمام زحف الانتفاضات وانكسار سلطة الأنظمة الشمولية، فقدت الدولة قدرتها على التكيف مع الأوضاع الجديدة، بعدما وقعت مؤسساتها في لحظة فراغ تشريعي أو تشكك في خلفياتها ومضامينها والمنظومة التي كانت تؤطرها قبلاً، وبعضها فقد الشرعية كذلك، مما زاد من انتشار الفوضى والتوتر في المجتمع وتفشي عدم الثقة بين طبقاته وضمور دور مؤسساته المختلفة.
وتأتي قضية الكرامة في أعلى سلم المفاهيم التي زينت الشعارات لحظات الحراك الديمقراطي في الجغرافية العربية، وهذا المفهوم له تداعياته وأثره على السلوكيات الاجتماعية والسياسية، خصوصاً إذا استحضرنا، ما وقعت فيه بعض الأحزاب وبعض قياداتها من امتهان وتذليل وابتزاز لتقف في جبهة واحدة مع الأنظمة المستبدة بالحكم، رامية خلفها مصالح الفئات المستضعفة من المجتمع.
لقد دفعت حالة الهيجان العاطفي الذي رافق فترة الحراك بالكثير من الناس إلى أن يعلقوا كل أحلامهم لترفرف مع شراع سفينة واحدة، وهي سفينة التغيير الجذري، دون أن ينظروا إلى ما قد تفعله رياح الثورة كما عواصف الغضب الطارئة بهذه السفينة؛ إذ تجرفها إلى بحر الفوضى والعنف واللاأمن، ولو بعد حين.
إن الانتهاك الجسيم لحقوق الإنسان وللذاكرة الجماعية الذي دمر شخصية الفرد المواطن وضرب دفء العلاقة التي تجمع الذاكرة السياسية الفردية بالمرجعية الأيديولوجية باختلاف منابعها، على امتداد حضن الجغرافية السياسية لهذه الأوطان، جعل تعويض كل ما تم تقويضه صعباً، خصوصاً إذا تعلق الأمر بالنفوس والذاكرة والمشاعر وحتى بعض الآثار التي تم تدميرها، ودليل كل هذا ظاهر من خلال اشتعال نيران حروب الطائفية وحملتها المسعورة والتقوقع تحت جناح العشائرية والاستنجاد بالمذهبية والعرقية وغيرها لخوض معارك خارج زمننا الثقافي والحضاري والتاريخي.
إنه لا يكفي بحال من الأحوال أن تستعيد بعض الأنظمة السياسية قدرتها على المناورة لتظهر متسقة مع العهد الجديد، فتبني مؤسساتها بشكل يمنع تكرار تسرب الممارسات التي تكرس التسلط والشطط في استعمال السلطة والتجاوزات والبيوقراطية وغيرها من السلوكيات التي تمت الإطاحة بها في اللاوعي أولاً قبل الواقع الفعلي، حتى توصف هذه الدول بالديمقراطية من جديد، ما دامت مواردها البشرية وأطرها لم تتشبع بعد بمفاهيم الدولة الحديثة وقيمها، بعد أن تبنى المؤسسات التي ينتمون إليها على ركن منيع، أساسه فكر سياسي تنويري غير متحيز لقطب اقتصادي أو تكتل أيديولوجي صرف أو لعصبية نتنة، ومنابعه حقوق الإنسان ومنظومة القيم التي تدور في فلكها.
وإذا ما وضعنا الهيبة أمام الكرامة لنقابلها بها باعتبارها مفهوماً آخر لا يقل عنها أهمية وحضوراً في الصراع الدائم بين رمزية الأنظمة من ناحية القوة وبسط السيطرة ومصادرة الكثير من الحريات من المهمشين لصالح بقاء المنتفعين من أباطرتها المقربين، وبين رمزية المواطن الحالم الذي يسعى دوماً لينزع حقه بصوت خافت أمام بطش دولته، نجد أن الخاسر الدائم هو الإنسان، مما يضيع عليه حقه.
بمعنى آخر الهيبة تنتصر على الكرامة إلى حدود هذا الربيع الديمقراطي، وهذا يجعل قدرات الإنسان الإبداعية مستهلكة في محاربة الخواء، مما يحد من ممانعته للتسلط والاستغلال والقهر لعدم تكييف طبعه المدني مع آليات العمل اللاعنفي أو العصيان المدني، وللأسف فشله في التمرن على الوسائل الجديدة لإدارة الصراع، قد لا يوقف العنف المضاد، وقد يجعل رد أفعالهم ينزلق إلى حرب أهلية بين مختلف مكونات الوطن الواحد.
الهيبة هي لغة رمزية تولد مع النظام بما اكتسبه من شرعية وقوة وحزم مؤسساته في تطبيق القوانين على مدى قيامه، كما توفيره لمجموعة من الحاجات للمواطنين وضمان حقوقه، إن فقدان هذه الخاصية الهامة يوقع الأنظمة في ارتباك وتتابع الانهيار لمختلف المفاهيم التي تشكلت في ظل مؤسساتها، وبذلك تفقد صورتها الطبيعية مما ينعكس سلباً عليها؛ إذ يقع التشكيك في دورها وقدرتها وفاعلية ترسانتها القانونية وما تعتمده من شرعية، فتظهر تعاقدات جديدة بين الناس، تنسجم مع الحاجات وتلبي الحد الأدنى من النظام، كأنه عودة إلى ما بعد الطبيعة وما كان من ولادة من علاقات بينية بين مكونات التجمعات البشرية الواحدة أو المختلفة.
الهيبة إذاً لغة التواصل اليومي المفروض أن الأفراد يتلقونها ويستوعبونها، سلطة رمزية قد يعمل البعض سواء على تضخيمها أو صقلها وجعلها صورة طبيعية لما يجب أن تكون عليه المواثيق والتعاقدات، التي لجأ إليها المجتمع الإنساني في لحظة قصوره عن توفير الحماية أو الرعاية لبعضهم البعض، ثم التنازل عن القوة لما تسببه من صراع محتدم وتفكك في بنية التجمعات وروابط المجتمعات لصالح الدولة باعتبارها كياناً طارئاً يعبر عن حاجة فعلية، ورمزاً للاستقرار وتنفيذ القوانين وحفظ الحقوق ومراقبة الالتزامات، ومصادرة الدولة العنف الهدف منه تحقيق مصلحة واقعية، ليخفف الصراع وتتكافأ الفرص، وتتحقق المساواة أمام القانون، ويتحقق الأمن والسلم في ظلالها.
الحراك الشعبي العفوي يحتاج في النهاية إلى فرش ثقافي ومعرفي مركب، فلا يجب أن ينساق ببراءة ثورية إلى أهداف مثالية بعيدة كل البعد عن التطلعات الحقيقية للشعوب.
والأنظمة السياسية تحتاج لكي تحقق الاستقرار إلى توسعة الحقل الدلالي الحقوقي بعيداً عن الآداب السلطانية وما تراكم في مباحثها تاريخياً من فلسفة سياسية مؤطرة بالغلبة والقبول بالمستبد العادل وحكم الرعايا بالسيف، هذه المراجعة الملحّة ستمكن المواطنين في الوطن العربي -وليس الرعايا- من الإحساس بانتمائهم إلى هذا العصر، بعيداً عن التيه في طرق أخرى وفلسفات أغلبها اصطنعت لتكريس نفسية الاستعباد والتبعية، وهي كلها طرق وفلسفات تثبت فشلها وانسداد أفقها مع كل لحظة ثورية تنبعث فيها الإرادة الإنسانية لتشكل وعيها مجدداً، فتشرق معها الحاجة للحرية والكرامة والعدالة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.