قالَ الحَسَن: "مِسكينٌ ابن آدم صَريع الشَبَع، أَسير الجوع".. لِنَترُك الصَرعَى، فابتِلاؤُهُم بالشَبَعِ أقصى مِن أن نُثقِلَه بالحَرف فَيَنفَجِر، أو نَسقيهِ بالفِكرة فَيَختِنِق، إنّما لِنَغَرّدَ في سِربِ الجَوعَى ونَبدَأ مُنذُ ليلَة الهِلال في السَنَة السابِعَة للنبوّة، وقتَ أن حوصِرَ رَسولُ الله -صَلى الله عليهِ وسَلّم- ومَن مَعَه في شِعبِ بني هاشِم، لا فِكرَة واحِدَة تُظلّهُم، إذ تَحولَقَ المُسلِمونَ تَحتَ غَيمَةِ الإيمانِ والتَقوى، ودُروسِ الصَبر والابتِلاء، واستتَرَ مَن بقي بِدرعِ الحَميّةِ والعَصبيّة والقَرابَة.
اجتمعوا جَميعاً في شِعبٍ بلا غِذاء ولا كِساء، ولا دَواء، يَنهَشُ بِهُم الجوع حَدّ المَوت، حَتّى أذِنَ الله لدُويبَةٍ ضَعيفَةٍ أن تَفُكّ هذا الحِصار القاتِم.
لَستُ بالحَرفِ هذا أهدهِدُ بَطنَ طِفلٍ يُزَقزِق، ولا بِنُقاطِه المُتتابِعَة أوقف بُكاءَ أُم تَرى الأرواحَ تُغادِرُ بِصَمت، إنّما أغَرّدُ كَأرضَةٍ اجتهدَت في حملِ الماء، فحملتُ ما أملِك مِن الحرف مُتأمّلاً بفَرجٍ قَدّره الله فأكرَم أضعَف خلقِه بالمحاولَة.
يوماً ما "أضافَ رجلٌ أعرابيّاً فَلَم يأتِه بِشيءٍ يَأكُله حَتّى غُشي عَليهِ مِنَ الجوع، فأخذَ يَقرأُ عَليهِ القُرآنَ.. فَقال:
لَخبزٌ يَا أخي عَليهِ لَحمٌ ** أَحبُّ إليَّ مِن حَسن القُرآن
تَظلُّ تُدهدِه القُرآن حَولِي ** كَأنّي مِن عَفاريتِ الزَمانِ".
كَذلِكَ حالُنا تَماماً، فَوالله إنّي لأجُدُ يَنابيعَ الصَبرِ قَد فاضَت مِن جِنانِهِم، وبَشائِر الرِضا تُنير الأرض كُلّ صَباحٍ فيهِم، فما أرادوا مِن أفواهِنا كَلامَاً بالتصَبّر، ولا عَلى مَنابِرنا صوراً للجوعِ والألَم بِمَن سَبَق.. فَليَتذَكّر قارئ المحن أنّها كانَت شَرارَةَ البَدء، ومَخاضَ الولادَة والانتِشار، ومَن يُكرّر الصورَة فَكأنّه يُحاوِلُ عاجِزاً أن يولِجَ جَملاً في سَمّ الخياط.
أيُّها العاجِزُ.. استجمِع لسانَ الحَقِ وحَدّثني عَن رَسولِ الخَليفَةِ حينَ طافَ البُلدان فَلم يَجِد مُحتاجاً، حَدّثني عَن طُيور المُسلمين التي شَبعَت في بِلادِنا، حَدّثني عَن إسلامنا حينَ كُنّا مُسلمين، عَن العَدالَة والمُساواة، حَدّثني عَن خَليفَةٍ لا يَترُك لأبنائِهِ ميراثاً، وعَن أمير يَقتَنِصُ حَبّةً مِن جَوفِ ابنَتِهِ خَوفاً مِن أن تَأكُل ما لا يَحِلُّ لَها.
"مَن قال إن الجوعَ خَيرٌ مِنَ الشَبَعِ فَلا تُصَدّقه".. أعِد عَليهِ كَلامَهُ وقَد حُرِمَ الطَعام، وعَجِزَ عَن القِيام، وَضُمّ جانباه حَدّ الإطباق، فَيجيبُكَ دونَ شَك إنّما الجوعُ كافِر، والأصلُ ألا يَرتَبِطُ بِمُسلِمٍ وحَديثُ نَبي الله -صَلّى الله عليهِ وسَلّم- بينَ أيدينا: "الْمُسْلِمُ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً".
كَيفَ للكُفر أن يُهَدّدَ مُسلِماً وقَد قال صَلّى الله عليهِ وسَلّم: " مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَان وَجَارُهُ جَائِعٌ إلى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ بِهِ".. أليسَ عُمَر بن الخَطّاب،الذي أعَزّه الله بالإسلام وأعَزّ الإسلام بِه، قَد أوقف حَدّاً مِن حُدودِ الله وقتَ المَجاعَة؟! وهَل أعَزّ عَلى عُمَر مِن حُدودِ الله وإقامة شَرعِه؟!
بالجوعِ يُغتالُ شُموخُ الرَجُل، وتَتَعَثّرُ عِزّتُه، وأمامَ جَبروتِه تَخضَعُ المَرأة وتَنكَسِر. وحدَثَ يَوماً أن قَتَلَ رَجُلٌ بِصفّين أبا امرأةٍ وابنَها وأَخاها وعَمّها وعِشرينَ مِن أهلِ بَيتِها، ثُمّ أَتَت تَسأله، فَقال: مَا أظنُّ عَلى ظَهر الأرض أبغَض إليكِ مِنّي!
فَقالَت: بَلى، إنّ الذي ألجَأني إليكَ أبغَضُ إليَّ مِنكَ، وَهُو جُوع بَطني.. إنما والله ما نَجِدُ الساعَةَ إلا ألسِنَةً راضِيَة صابِرَةً مُحتَسِبَة، تَقولُ للمُتخاذلينَ بيَقينِ الواثِق:
"وَلَو عَليكَ اتّكالِي فِي الطّعامِ إذاً ** لَكُنتُ أول مَدفونٍ مِنَ الجوعِ".
حَتّى إذا رَأينا صُوَرَهُم، ونُحولَ أجسادِهِم، يَصومونَ خَجلاً مِن قِلّة الطَعام، يَتَسَحّرونَ باليَأسِ عَن الإفطار، كُلّ ليلَة تَشاهَدنا لِضَعفِنا عَن نُصرَتهِم وقُلنا بِعجزِ القاصِر:
"والساعَة اقتربَت لِفَرط ** الجوعِ وانشَقَّ القَمَر"
فَيُمسِكونَ عَن أكلِ ورَقِ الشَجر فَيُجيبون:
"ومَا هي إلا جَوعَة إن سَدَدﺗُﻬا ** فَكُلّ طَعامٍ بَينَ جَنبيكَ واحِدُ".
للهِ دَرُّهم طافَت أخبارُهم كُلّ الأرض فَلم يَجدوا مِنّا غير الكلام، نَصعَد عَلى مَنابِر الحِكمة، نَقرَعُ أبواب الجُفون طَلباً للدَمع، نُقلّب في مَلامِحنا حُزناً، وبينَ كُل هذه المحاولات نَجتَهِدُ أن نبتَسِم في وجهِ ضَوء الكاميرا!
ثُمّ نُتابِعُ بِحُزن: أواهُ.. أوّاه.. يا لتِلكَ البَراءَة.. ولتِلكَ الطُفولَة، أتُرى تَدومُ؟
كيفَ ذاك؟ وصَوتُ أمّها التي باتَت عاجِزَةً بِلا سيقان يَرِنُّ في آذانِها "أغيثوني".
كَيفَ ذاك؟ وبِبراءَتِها تَرفُضُ أن تُغيّر ثياباً تَعطَرت بِقطراتِ مِسكٍ من دَمِ والِدها..
ونَستَمِرُّ بِسَرد الكَلام، نُقلّب المَشاهِد، ونُحلّل الأحداث، نَجمَع بينَ الدمعِ والفَرح حيناً، ونَقرأ على طُفولتهم السَلام.
لكنّ كُل هذا الحَشو من الحُروف يَسقُط بينَ يدي طِفلَةٍ تَتَصبّر كأيوب، وتنطِقُ دُرراً كداود، وتَسحَرُ بالفَصاحَةِ كَمُحمّد – صَلى الله عليهم جميعاً- ويَكأنّ الله قَد أوحى لها بالكَلام فَتقول:
تَموتُ طُفولَتُنا مُبكّراً شَوقاً للجِنان.. أمّا نَحنُ فَنَكبُر سَريعاً لنُكابِدَ الظُلّامَ، ونُزاحمهم خَلواتهم بصَدى الحُريّة التي نعتقدها.
للراحلينَ جَنّات ونَهَر.. للمُصابينَ: "وبَشِر الصابرين".
وللباقينَ: "وَكَانَ حَقاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ".
فَوّفِروا مَدامِعكُم لأفراحِنا القَريبَة بحول الله.. والسَلام.