إذا كانت روسيا الفيدرالية قد اجتازت بنجاح اختبار ضمِّها لشبه جزيرة القرم وبعض الأجزاء من الشرق الأوكراني، ومن قبل ذلك تخطيها لقضية فصل أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية عن جورجيا خلال مدة لا تتجاوز الستة أيام، ومن قبل ذلك أيضاً إخماد الحركة الانفصالية الشيشانية على النحو القاسي الذي رآه العالم في جروزني، الشيء الذي يمكن أن يعتبر في المجمل بمثابة رسائل ومؤشرات للكثير من الأطراف، ولا سيما حلف شمال الأطلسي، عن مدى جدية والتزام الكرملين في الدفاع عن حديقته الخلفية ومجاله الحيوي من أي تمدد محتمل للحلف شرقاً، فإن ذات السيناريو يتكرر أيضاً بشكل أكثر وضوحاً وإصراراً على الأرض السورية المتاخمة للحدود الجنوبية للناتو؛ حيث باتت روسيا اللاعب الأساسي في الأزمة التي دامت لأكثر من خمس سنوات، وباتت معها العلاقات الدولية وموازين القوى والسلم العالمي أمام محك حقيقي.
ولعل من تجليات ذلك الدفاع السياسي المستميت عن حليفها السوري، عبر منع أي تسوية سياسية أو إدانة يمكن أن تصدر عن مجلس الأمن الدولي، عبر استخدام حق النقض (الفيتو) لأكثر من مرة، ومن خلال انخراط عسكري مباشر في مجريات الصراع المعقد، الذي بات يتخذ أبعاداً استراتيجية من خلال قصف جوي مكثف للكثير من المدن والبلدات، وبخاصة حلب، بحجة محاربة الإرهاب، وأيضاً من خلال توسيع دائرة النفوذ العسكري على المياه الدافئة شرقي المتوسط في قاعدتي حميميم وطرطوس، ونشر أسلحة استراتيجية ونوعية كالمضادات الجوية S-300 ونسختها المطورة S-400، في مقابل سياسة أميركية أكثر تردداً وارتباكاً وغموضاً.
المشهد يبدو أيضاً أكثر خطورة على مستوى دول البلطيق الثلاث المتاخمة للحدود الغربية لروسيا (لتوانيا، واستونيا، ولاتفيا) المنبثقة عن الاتحاد السوفييتي والأعضاء الجدد في حلف شمال الأطلسي، وهو أمر لا يبدو أن روسيا يمكن أن تستسيغه أو التسليم به بتلك السهولة التي يمكن أن يتصورها البعض، الشيء الذي أكده أيضاً ريتشارد شيريف، النائب السابق لقائد قوات الناتو في أوروبا؛ حيث اعتبر أن الحرب بين روسيا والناتو قادمة لا محالة، مرجحاً اندلاعها قبل نهاية العام الحالي.
هذا التوتر غير المسبوق عكسته أيضاً صحيفة السان (The SUN) البريطانية من خلال استطلاعها لآراء فريق من الخبراء المنتمين إلى مركز RAND التحليلي الأميركي؛ حيث أجمعوا على أن الحلف يعجز في الوقت الراهن عن ردع روسيا في البلطيق أو ثنيها إذا ما عمدت إلى القيام بزحف شامل أو ضم لدول البلطيق على النحو الذي رأيناه في القرم؛ حيث يمكن للجيش الروسي القيام بذلك عملياً خلال ساعات، كما خلص فريق الخبراء بحسب صحيفة السان (The SUN) إلى أن أي احتساء لحلف الناتو لمرارة هزيمة خاطفة وقاصمة كهذه لن يبقى أمامه سوى إعلان حرب نووية على روسيا، أو الانهيار على وقع ما اعتبره "إهانة صعبة" قد يتجرعها على يد موسكو.
أمام هذا المشهد الذي يطبعه التوتر، تستمر بريطانيا في نشر أعداد كبيرة من الطائرات والدبابات القتالية، كما عبر الحلف عن نيته نشر نحو 4000 من جنود النخبة العالية الكفاءة ومكتملة التجهيز في شرق أوروبا السنة المقبلة، بالتوازي مع نشر روسيا لغواصات نووية خفية عن الرادار بحسب ذات الصحيفة.
هذا القلق عبّرت عنه أيضاً صحيفة "روسيسكايا كَازيتا" الروسية؛ حيث اعتبرت في مقال لها أن حلف الناتو لم يكتفِ بالتوسع باتجاه الشرق، بل يندفع بكل معنى الكلمة نحو الحدود الروسية، من خلال تعزيز مواقعه في دول البلطيق ودول حلف وارسو السابق، هذا ما يمكن استنتاجه بحسب ذات الصحيفة الروسية من تحليل نتائج لقاء وزراء دفاع الدول الأعضاء في الناتو الذي جرى في بروكسل مؤخراً، وكذلك من خلال تخويف القراء من قبل بعض وسائل الإعلام الأجنبية بالصاروخ الروسي الجديد "سارمات" (ساتانا-2)، القادر بضربة واحدة على تدمير إنجلترا وويلز.
بالتوازي مع هذا التوتر العسكري غير المسبوق، تعمد الدول الغربية إلى محاولة عزل روسيا سياسياً، أو محاولة تحريك ملفات جرائم الحرب في سوريا على مستوى المحكمة الجنائية الدولية، أو الحد من وجودها على مستوى الهيئات التابعة للأمم المتحدة، كمجلس حقوق الإنسان، أو إعداد حزمة جديدة من العقوبات الاقتصادية أكثر قساوة على روسيا من سابقاتها، في محاولة منها لإضعاف اقتصادها، أو جرها إلى استنزاف مواردها المالية، سواء من خلال فرض قيود على صادراتها غير الطاقية، أو من خلال جرها إلى سباق تسلح جديد وحروب بالوكالة مع تنظيمات "متشددة" على الجبهة السورية، في حرب تبدو أكثر خطورة وتكلفة من سابقتها في أفغانستان.
إن الحرب غير المعلنة بين الدب الروسي وحلف الشمال الأطلسي لتُعيدنا إلى أجواء الحرب الباردة التي أدت في نهاية المطاف إلى انهيار حلف وارسو ومعسكره الشيوعي، وكرست بالنتيجة نظاماً أحادي القطبية تزعمته الولايات المتحدة، وتعيد معها العلاقات الدولية إلى أجواء من التوتر وضبابية الأفق السياسي في ظل عجز مجلس الأمن الدولي عن إيجاد حلول للكثير من النزاعات الإقليمية والحروب والمآسي الإنسانية عبر العالم، وفي ظل ارتهان منظومته لمصالح خمس قوى دولية كبرى منتصرة في الحرب العالمية الثانية، فهل ستصمد روسيا هذه المرة أمام هذه المعركة المعقدة والمتعددة الأبعاد، وتدفع خصومها إلى القبول بالواقع الدولي الجديد عبر توقيع نسخة جديدة من اتفاقية يالطا وما يمكن أن يتمخض عنها من إعادة رسم وتقاسم لمناطق نفوذ جديدة، أم أن مصيرها قد لا يبدو مختلفاً كثيراً عن مصير الاتحاد السوفييتي؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.