في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى خريطة التحالفات السياسية، سواء الحكومية أو النيابية، من خلال التنسيق البرلماني بين فرق الأحزاب في السنة التشريعية الحالية، خرج حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي تلقى هزيمة قاسية في الانتخابات التشريعية الأخيرة بالمغرب، ببلاغ يقول فيه إنه سيرفع مذكرة إلى الملك يقترح من خلالها كيفية تطوير الحياة السياسية والانتخابية، وهو نفس الأمر تقريباً ذهب إليه حزب الأصالة والمعاصرة – المعارض، وهو الحزب الوحيد الذي استثناه رئيس الحكومة المنتخب عبد الاله بنكيران؛ حيث كشف بلاغ صادر عن مكتبه السياسي عن أنه يستعد لإعداد مذكرة من أجل رفعها للملك محمد السادس، وذلك بهدف المطالبة بتعديل دستوري يهدف إلى ملء "بعض حالات الفراغ"، في ذات البلاغ جاء هذا الكلام: "اجتماع المكتب السياسي عرف نقاشاً معمقاً حول ما أبرزته الممارسة من حدود بعض المقتضيات الدستورية عند إعمالها، وكذا الحاجة إلى تأطير دستوري لجوانب من الممارسة السياسية تفادياً لبعض حالات الفراغ المعياري"، أكيد أن اللبيب والعارف بقوالب السياسة بالمغرب سيكتشف أن هذا الفراغ الدستوري يقصد به كيفية تعيين رئيس الحكومة، خصوصاً أنه لا يوجد نص دستوري يحدد الشخص الذي سيعينه رئيس الدولة، أي ملك البلاد، بمعنى لم يحدد صفة الشخص في الحزب الفائز، لماذا هذا التفسير معقول ومنطقي؟ لأن المتتبع للنقاشات التي كانت تروج قبيل الانتخابات الأخيرة، سواء قبل الحملة الانتخابية أو بعدها، كانت تتجه نحو سيناريوهَين:
السيناريو الأول كانت تروج له جهات مقربة من حزب الأصالة والمعاصرة بهدف خلق ما تسميه "حكومة وطنية".
السيناريو الثاني هو إمكانية تعيين تكنوقراط على رأس الحكومة.
بالنسبة للسيناريو الأول انخرط فيه بعض المحللين السياسيين في الدفاع عن هذه الأطروحة التي تفتقد للأسس الدستورية والعرفية، هذا السيناريو يدافع عن مسألتين أساسيتين يمكن ربطهما بمذكرة البام التي يتوقع أن يرفعها للملك خلال الأيام المقبلة؛ المسألة الأولى تكمن في ترويج إمكانية عدم تعيين رئيس الحكومة من الحزب الفائز، أو على الأقل تعيين عضو من الحزب، كما ينص الدستور "هنا لا بد من الإشارة إلى أ الدستور ليس فقط ما هو مكتوب، بل هناك عرف دستوري يفرض تنصيب الأمين العام للحزب الفائز على رأس الحكومة"؛ حيث كتب الكثير من المحللين والمقربين من "الأصالة والمعاصرة" بفرضية تعيين عزيز الرباح وتشكيل حكومة وحدة وطنية يتحالف فيها الخصمان البيجيدي/البام، والمسألة الثانية روجت كثيراً بعد ظهور نتائج 7 أكتوبر، بمعنى إمكانية تعيين عبد الإله بنكيران على رأس الحكومة، أصبحت واقعاً سياسياً، وهنا البحث عن تخريجات سياسية للدفاع عن تحالف الغريمين البام والبيجيدي، وإحداث نوع من المصالحة السياسية، وهي التي يروجها إلياس العماري مؤخراً.
السيناريو الثاني، وهو الذي كان يهدد المسار الإصلاحي بالمغرب، سيناريو الانقلاب على المنهجية الديمقراطية، وهو الشيء الذي قطع معه ملك البلاد بذكائه وبدعوته في البرلمان الأخير إلى مواصلة الإصلاح، خصوصاً إصلاح الإدارة التي كان بنكيران سبق أن قال في حوار صحفي إن إصلاحاته تعاني من مشكلة عويصة متعلقة بضعف الإدارة وفساد بعض أطرها، إذن فهذا السيناريو فشل في المغرب فشلاً ذريعاً؛ لأنه يفتقد لسند شعبي.
وبالرجوع إلى بلاغ حزب الأصالة المعاصرة، وبالتأمل في بعض العبارات الدقيقة، وإن كان البلاغ لم يحدد بشكل دقيق عن مضامين التعديل الدستوري الذي يطالب به، مكتفياً بالقول إن "أعضاء المكتب السياسي سبق لهم أن ذكروا بهذا الخصوص بمختلف مقترحات الحزب التي أنتجها في سياق إعداد دستور 2011، وما أعقبها من مقترحات للحزب ترتكز جميعها على تأويل ديمقراطي لقانوننا الأسمى واستكشاف سبل تطوير مقتضياته ومراجعته ضمن هذا المنطق"، ماذا يقصد البام بالتأويل الديمقراطي للدستور في هذه اللحظة التي تشكل فيها الحكومة؟ استحضار الزمن السياسي هنا يعطي نتيجة واحدة هي أن البام لا يريد تعيين أمين عام البيجيدي رئيساً للحكومة.
البلاغ ذاته أوضح أن الرسالة التي يعتزم البام رفعها إلى الملك تهم أيضاً ملاحظات الحزب حول "المسلسل الديمقراطي"، مشيراً إلى أن "المكتب السياسي تدارس قضايا تتعلق على الخصوص بطبيعة الخطاب السياسي المستعمل من قِبل بعض الأحزاب ومخاطره على الاختيار الديمقراطي، وكذا قضية استعمال الرأسمال الرمزي للدين الإسلامي في الاستحقاقات الانتخابية وآثاره السلبية على المدى القصير والمتوسط"، مضيفاً أن"المكتب تداول أيضاً مقترحات تتعلق بتحديد يوم الاقتراع وتطوير إمكانيات الأحزاب السياسية، وشفافية التمويل ومراقبته"، بمعنى أن التعديل الذي يطالب به حزب إلياس العماري، هو لجم خطاب بنكيران الذي يعاديه ويرفضه، البام يرفض "شعبوية بنكيران"؛ لأن الأخير له قدرة تواصلية خارقة، واستطاع إقناع فئات كثيرة بالتصويت العقابي لحزب البام، بنكيران يشدد في كل تصريحاته الإعلامية على فكرة رفض حزب البام، ويصفه غالباً بحزب التحكم، إذن لا جديد على مستوى بلاغ الأصالة والمعاصرة إلا مسألة واحدة هي محاولة إقحام الملك في الصراع السياسي، ومحاولة فرض أمور متعلقة أساساً بتنافس البرامج السياسية، بمعنى آخر التعديل الدستوري يقتضي أن يكون قبل كل شيء قضية رأي عام، وليس مطلباً حزبياً فقط ضد حزب آخر منافس.
ونخلص كما خلص أغلب الباحثين في القانون الدستوري، إلى أن المطالبة بتعديل الدستور عن طريق رفع مذكرة سياسية إلى الملك محمد السادس في الوقت الراهن الذي يصادف تشكيل حكومة جديدة، ما هي إلا قراءة سلطوية لدستور 2011 الذي منح أحقية تشكيل الحكومة للحزب الفائز بالمرتبة الأولى.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.