لعل البلاد العربية في المأوية الأخيرة لم تكن أوفر حظاً ولا أحسن حالاً من غيرها، فأنْ يَشُلَّكَ "التتريك"، ويقسم ظهرَك "التغريبُ"، وما أنْ تريد أن تستويَ قائماً، وأنت خائرُ القِوى أصلاً، وبلا فترة نقاهةٍ، حتى ترى أنيابَ "التجهيل" مكشرة؛ بل ورؤوسَه يانعة يصعب قطعها، واجتثاتها..
فما أنْ اِنسَلَّتْ شوكةُ الاستعمار من أغلب البلدان الأفرو-آسيوية في منتصف القرن الماضي، حتى ظهر هذا الجهاز الغامض، الذي حسبناه أخف الضررين، لكنه كان أوقعهما، وسرعان ما أدركنا أن الاستعمار ذهب وترك لنا عنقاءه تنبعث كلَّ حين من رمادها.
ذهب الاستعمار المادي وانبعثَتْ عنقاؤُه، أو لنقل عنقاءاتُه باستعمارٍ معنوي هو أشد وطئاً وأفظع، فكان هذا الاستعمار يُحرِكُ هذه العنقاءات بعصي طويلة من بعيد، ويضغط على زرها في أي وقت شاء، واغْتَصَصْنَا بها بين ظهْرانينا، فوضعت قبضتَها على قواعد متينة فهي تسعى لنقضها، فسلبت هذه الدول قراراتها، وأفرغت يدها من تحديد مصائرها..
ولعل هذا ما أشار إليه الشاهد على القرن، مالك بن نبي في كتابه "في مهب المعركة" إذ قال: "إن الاستعمار ما زال في حاجة إلى أقلام يكتب بها، وإلى أبواق يتكلم بها، حتى لا يُعرف خطُّه ولا صوته عندما يخادع الجماهير الطيبة. وهذا يعني أن الأرضة (نمل أبيض) المتعلمة ما زالت منتشرة في البلاد الإسلامية على وجه العموم، وقد عرفنا منها أصنافاً بالجزائر على وجه الخصوص".
ولك أن تتصور هذه الحالة القاتمة التي يسعى فيها الاستعمار جاهداً إلى بث أفكاره -بكل وسائله- عبر أفواه غيره، وحبذا لو كانت من فم حميم أو يد صديقة تنتمي للضحية نفسها..
وهذا يعطي آفاق تفسير جدي لسؤال: لماذا لم تلتحق البلدان المستقلة بركب المتقدمة على سلم النمو؟
ببساطة: لأن استقلال هذه البلدان كان شكلياً أو شبه شكلي على العموم، فظلت لا تمتلك مصيرها، ولا تحدده شعوبها، بل يُفكَر ويُحدَدُ لها، أو بالأحرى يُدبَّرُ لها..
فكان من الصعب على هذه الدول المستعمَرَة -باعتبار ما كان- أن تنفرد بمصيرها، وشعوبُها أشد ما يصعب عليهم ذلك، ولعل الربيع العربي -أو الخريف لا ندري- وضَّحَ ذلك توضيحاً لا غبش فيه..
ومَن يُظنُّ بهم أنهم صناع القرار أو مالكو الزمام، هم بالأحرى مجرد "لعبة ظل" كما يعبر عنها مالك بن نبي نفسه.
ومن البديهي أن يلجأ الاستعمار (الذكي) إلى طمس هذه المعالم، وعدم كشف هذه اللعبة، رغم أنه رأس الأفعى ومنبع الصراع، لذلك ترى العنقاء تنبعث مرة أخرى فتخرج على الناس بمصطلحات تُغطِي هذه الصورة العامة كـ: الانتخابات/الديمقراطية/ القمة العربية الخليجية/ الحرية.. وهذه في كُنهِهَا لا يُنكَر دورُها جملة وتفصيلاً، بل لها تأثيرات جزئية فقط، ولعل بعضها يشبه قصة الأم التي تضعُ الحصى في القدر، وتحركه فوق النار، لِتُداري أبناءها على جوعهم حتى يأخذهم النوم..
أما المصير الكلي، والأفكار الرئيسة الموجِهَة فكما قلنا لا دولة تحكم قرارها فيه، ولعل خبراء السياسات الخارجية يعرفون هذا كمعرفة أبنائهم، وهنا نشير إلى كتابِ أشهرِ مَن يتكلمُ ويكتبُ في السياسات الخارجية في وقتنا الحاضر، ألا وهو الأميركي نعوم تشومسكي، وكتابه: "الدول الفاشلة: إساءة استعمال القوة والتعدي على الديمقراطية"، كما يمكن الاطلاع على كتابه: "الهيمنة أم البقاء؟" الذي يَقْلِبُ فيه الطاولات، ويتهم الولايات المتحدة كأبرز دولة فاشلة لتغذيها على الشعوب، وإساءتها في استعمال القوة، ويُحذر من خطرها.
ومن قَبْلُ؛ قد تفطَّن لهذا عبدالله كنون -رحمه الله- وأشار إليه في كُتيِّبه "الإسلام أهدى" قائلاً: "ولقد آمن الناسُ بالقوة حتى صارت عندهم هي غاية المدنية، وحبذا لو كانت هذه القوة تُستعمَل في كَفِّ الظالمِ عن ظلمه ومنع العدوان، وحماية الحق وصاحبه من الضيم والخذلان، ولكنها إنما تُتَّخَذُ لإذلال المستَضعَفين، والسيطرة على الشعوب المتخلفة واستغلال ثرواتها الطبيعية وإنسانها الفقير للزيادة في غنى الدول القوية وترفها، وتمكنها من بسط نفوذها على العالم، والتحكم في إرادة الأفراد والجماعات".
وهذه اللعبة المحكومة، والمسرحية الكبيرة بنيرانها وعنقاءاتها، يصعب فيها جداً أن تَسْبَحَ ضد التيار، أو أن تواجه أي عنقاء.. فإن برزت "فكرة" تريد أن تفضح المستور أو أن تضيء السبيل بأفكار ورؤى، دق ناقوس الخطر لدى صناع القرار الحقيقيين، واشتعل مُنبِّهُهم، فشمروا الأكمام، وشدوا الزمام، وانطلقوا لا يلوون على شيء إلا لكبح هذه الطفرة الفُجائية..
فيبدأ الصراع -صراع الأفكار- وهنا نشير لكتاب مالك بن نبي "الصراع الفكري في البلاد المستعمرة" الذي يوضح فيه بتفصيل كبير هذه الجزئيات التي لا يتسع المقام لها الآن، فهو يقول عن هذا الصراع: "إذا كانت الحرب لن تقع.. فإن الصراع سيستمر بسلاح آخر، وفي ساحات قتال جديدة، إن انتصارات السلام تتقرر في جبهات الصراع الفكري".
فتُرصد لهذه الأفكار الطافرة المنبوذة أفكارٌ أخرى مضادة، فينهجون وسائلهم/عنقاءاتهم، التي أصبحت معروفة للعيان، إلا من جهل أو تجاهل، من كُتَّابٍ مساوَمين أو وصوليين انتهازيين، ومنابر مشبوهة، أما إعلامنا -الذي يمكن أن يكون إعلامهم- فحدِّث عنه ولا حرج، فيسخِّرونه لا لذم هذه الفكرة أو نقدها ونقضها، بل على العكس، يلجأون لحيل أشد ذكاء، فقد يخلقون قضية موازية تقوم لها الدنيا في رمشة عين، وتُسلَّط عليها الأضواء، فيما تظل "الفكرة الطفرة" تقبع في الظلمات على الهامش إلى أن تخبو أو تجفو أو.. ولا نُريد هنا التمثيل بوقائع عشناها ومرت كانت اللعبة فيها ظاهرة، إنْ في حينها أو من بعد، سواء في بلادنا أو في أي بلاد من البلاد المستعمرة.
بقيت الإشارة في الأخير إلى أننا لا نريد أن ننزلق إلى مطب نظرية المؤامرة أو نعظمها، لكن فقط كسؤال مُلِحٍّ: متى سَتُنشِئ البلدان الأفرو-آسيوية أفكارها التي تقرر بها مصائرها لوحدها؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.