تشتغل الأحزاب السياسية المغربية على غير عادتها على انتزاع مساحات القرب من المواطنين وانتزاع أصواتهم كذلك، ببرامجها المكررة وبآلياتها الكلاسيكية وبخطاباتها التي ألفها بسطاء المجتمع كما الطبقة المثقفة والعالمة، وتبقى الأحزاب المواكبة للتطورات التقنية والمجددة لنخبها والمتبنية لخطاب حداثي معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة.
إن مقصد الأحزاب السياسية هو كسب أصوات كل الشرائح الاجتماعية، وجعلها منصتةً ومستوعبة لتفاصيل برامج سياسية يعرف الكل أن أغلبها يبقى حبراً على ورق بعد انتهاء العملية الانتخابية، بحيث لو سئل من سيتصدر الانتخابات بعد يوم من فرز الأصوات لقال إنه ينفذ برنامج الملك.
أما الجديد هذه المرة، أن الساسة أصبحوا يتموقعون بين طرفَي نقيض، بين الاستمرار في خط تكريس الآداب السلطانية وتكرار تجارب الأحزاب الإدارية والموالية للسلطة الحاكمة في البلاد، وبين التيار الإسلامي المحافظ والممانع أو اليساري المفعم بكثير من الطاقة والكثير من المثالية.
إن المواطن العادي لم يستوعب لعبة السياسة في المغرب بالشكل الذي يمكنه من فهم العلاقات المعقدة التي تجمع بين كل الأطراف التي تتنازع مناطق نفوذ ودوائر صنع القرار؛ لأنه إلى الآن يمارس مقارنات في جزئيات تخص كل فريق، ويحاسب الأحزاب على تلك التفاصيل اليومية، التي تتعلق بمعيشته وتمسّه مباشرة، أما ما راكمه المشهد السياسي المغربي من تجارب وما أصبح عرفاً سياسياً أو ثقافة تحدد كل تلك الحدود بين النظام السياسي والفاعلين وتأثير التراث السياسي التاريخي والفقهي على كيفيات تدبير المشهد عموماً ومن يتخذ القرارات المهمة والصعبة فلا ينتبه إليه.
إن الاحتكاك الحاصل اليوم بين التيارات المختلفة، وفي ظل دستور جديد دفع الثقافة السياسية وممارستها إلى أن تشهد ثنائية قطبية بين اتجاه يؤسس للإصلاح ويتبنى رؤية يختلط فيها الفكر السلفي مع تراث فكر النهضة والإصلاح وبعض تسربات الحداثة التي فرضت نفسها بشكل أو آخر مع مطامح سياسية واقتصادية واجتماعية لفئات واسعة من الشعب، وهذا مثاله حزب العدالة والتنمية، واتجاه لا يتخلف عن الأول إلا بكونه يشكل فرملة زائدة لصيرورة الإصلاح وبشروط ممنوحة ووفق رؤية لا تعبر عن مطامح الحراك الديمقراطي، وآمال الكثير من الشباب ومثاله حزب الأصالة والمعاصرة، إذن فكلاهما يرشف من عين واحدة يجمع رؤية توفيقية في تركيبة غامضة وهي السلفية والتحديثية، ويتمتع بقدرة هائلة على إنتاج خطاب تلفيقي يستغل نتائج الربيع الديمقراطي بالركوب على آمال شبابه.
إن الثنائية القطبية التي تتشكل في المملكة المغربية بين حزبين متصارعين هي متوهمة، ولا تعبر بصراحة عن نضوج الممارسة والفعل السياسي؛ لكونها لم تؤسس بعد لثقافة تدبير الاختلاف السياسي والأيديولوجي؛ حيث كشفت عن خطاب سيئ وممارسات مستهجنة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وما لم تضع بعد مختلف الأحزاب الأخرى قدمها في إحدى الجهتين بقناعة ووفق رؤية واضحة؛ ليتم تشكيل قوى ضغط وفق مشروع استراتيجي لا يرتبط بالحملة الانتخابية الظرفية، فلا يمكن الحديث عن استقطابات حقيقية، والمطلوب من الأحزاب الجدية التي تملك رصيداً نضالياً وتاريخياً وبرنامجاً سياسياً واقعياً هو وضع بوصلة تحدد تموقعها الفعلي ومدى فاعليتها في تدبير الشأن العام المغربي، ومشاركة المؤسسة الملكية في صنع خيارات واتخاذ القرارات الكبرى بدل الاكتفاء بإنجاز برنامج يومي أو تنفيذ برنامج معد مسبقاً لم يسطره الحزب، ولا يتوافق مع وعوده وحملاته الانتخابية.
اللفياثان الانتخابي هو أن يشكل المنافس السياسي من قدراته الرمزية وخطاباته سلطة معنوية تريح ضمائر الناس ويقنع ضعاف العقول بأنه يمتلك قدرات عجائبية تصلح حالهم، وتوقف بؤسهم، وتغير واقعهم اليومي للأفضل، فيقبلون التنازل عن حرياتهم وقدرتهم النقدية وملكتهم الإبداعية من أجل إتاحة الفرصة للحاكم الرمزي الذي يمثل دور المهدي المنتظر والرجل الخارق من أجل تحقيق الأحلام وفق رؤيته الخاصة وبرنامجه الإصلاحي المثالي الذي لا يقدر أحد على مواجهته أو نقده، فلا ينتبهون لتنازلاتهم ولخسارتهم إلا بعد فوات الأوان، وللأسف، هذا الاختيار يقع وفق الإرادة الجماعية المؤطرة بالأوهام وبكثير من المطامح الشخصية؛ ليستبد الزعيم بالسلطة وأثناء كل نقد أو مواجهة، يستند إلى ما راكمه من شعبية أو تاريخ نضالي، وينظر إلى محصلته الانتخابية النسبية، التي جعلته يتصدر المشهد بأنها تفويض مطلق من كافة الشعب، وأن الفئات الساكتة أو المغيبة أو المعارضة للعبة كلها، والتي لم تعبر عن صوتها، لا تملك إلا الانصياع للتي صوَّتت أو التي منحته كل هذه الشرعية التي أصبحت مشروعية.
في المغرب تلعب الطبقة المتوسطة دور سفينة الإنقاذ وتعمل الأحزاب على استمالة صوتها بأي كيفية وفقت إليها، وأما الفئات الاجتماعية الفقيرة والمهمشة الأخرى، فتلعب دوراً ثانوياً وهي غير ملتزمة سياسياً في الغالب، وكثيراً ما تقع ضحية الوعود الانتخابية لبعض الأحزاب السياسية، حتى أمست فاقدة للثقة وتنظر للوضع بترقب وتوجس، وإن شاركت فإنها تشارك باستحياء وبراغماتية لتستفيد من بعض الهبات والمكاسب الآنية.
عوداً على ذي بدء، إن الإيجابي في ظل كل الممارسات السياسية المغربية هو طول النفس الذي تتمتع به بعض الأحزاب الجديدة على غير العادة، وقدرة النظام السياسي على المناورة وعلى وضع خيارات متعددة تخدم مشروعه وتجعل سيرورة النظام مستقرة ووضعه آمناً، وترك هامش واسع للفرقاء السياسيين والفاعلين المدنيين للعمل من أجل بناء ثقافة وممارسة ديمقراطية محلية ترتبط بتاريخ الجغرافية المغربية وذاكرة الشعب وتراثه السياسي والديني.
وهذا المران يجعل التحولات السياسية الإيجابية التي يشهدها المغرب أنموذجية في ظل التعثرات والنكسات التي تعترض تجارب الأنظمة العربية الأخرى، ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه هو: إلى أي مدى يقدر النظام المغربي على استباق الأحداث وفقه مآلاتها، ووضع الاستراتيجيات السياسية التي تخدم تطور البلد وتعزز تماسك بنية المجتمع والنظام ثم الانفتاح أكثر على الثقافات الديمقراطية العالمية بدل الاعتماد على الآداب السلطانية ونتاج المراكمة التاريخية؟
وهل تقدر الأحزاب السياسية المغربية على صناعة نخب سياسية تتبنى خطاباً مركباً يخدم أجندتها الأيديولوجية وتصوراتها الخاصة لتدبير الشأن العام وامتلاك زمام المبادرة واستقلالية قراراتها الحزبية بعيداً عن الارتهان إلى الغير؟ وكيف يمكن للنظام السياسي كما الأحزاب تعزيز ثقافة سياسية حديثة ودعم النخب الشبابية الصاعدة والسماح لها للتعبير والمشاركة الفاعلة، وتقوية قدرتها على صنع التغيير والمشاركة فيه بثقة وكرامة وحرية، وجعلها قادرة على المنافسة على مراكز القرار بعيداً عن الاستقطاب السلبي والاحتواء في مؤسسات صورية؟
وتبقى التجربة الديمقراطية المغربية ناشئة تتأثر بالأوضاع النفسية والأعراف التاريخية الاجتماعية والثقافية والسياسية للفاعلين السياسيين حتى في تفسير روح الدستور الجديد أكثر من تأثرها بمضامين الوثيقة الدستورية ذاتها، أو تأثرها بالثقافة السياسية المعاصرة ومدارسها الكبرى، مما يخلق عند الباحث والمتمعن في الخطاب والتفاعلات السياسية كثيراً من الارتباك والحيرة والترقب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.