"لماذا لم نجد في الحب ما يكفي من الغفران؟
لماذا لم نجد في الحزن ما يكفي من السّلوان؟
لماذا ليس في الإنسان ما يكفي من الإنسان؟!".
أحمد بخيت، الليالي الأربع
أخذ الظرف الذي ناولته شقيقته، وهو يدلف إلى البيت، مَدَّته له وهي تحاول أن تخفي ابتسامة ماكرة، من على وجهها الطفولي، لكن أساريرها وشت بها.
لم يكن في مزاج جيد تلك اللحظة، أمسك الظرف منها وهو يرمقها بنظرة باردة كالغياب.. ولج غرفته، رمى الرسالة على مكتبه الوضيع، ودون أن يغير ملابسه، ألقى بنفسه على سريره الأبيض، رفيق حياته، الذي يتمركز في زاوية الغرفة القصية، "يكره سريره هذا، فهو يذكره بالمستشفيات، التي لا تشفي بل تزيد من علل المريض عللاً أخرى"، ولطالما أحس هو بمرض العيش في حياة لا تشبه الحياة، كأنه في غرفة إنعاش، ينتظر الفرج من ملك الموت، أو ابتسامة حياة من في القدر، تغازل فيها عيناه عينيها.
على سرير، تحاصره من اليمين مكتبة صغيرة، تتضمن بضعة كتب وروايات، كان قد قرأها ذات زمن الحياة الجامعية.. أغمض عينيه مناغياً نوماً عميقاً، يحاول فيه أن يسلم نفسه إلى إغفاءة صوفي حزين، لا يريد أن يرى فيها إلا أوجه الأولياء والصالحين.. أو يعانق في إغفاءة الكرى ما تمنعه صحوة الحقيقة القاتلة.. فيومه كان يوماً قاصياً كأيام السجناء.
غلبه خطب ود النوم، فشغف ما بين مفاصل الرسالة، التي تنتظر من يقرأها، يدك حصون مخيلته.
نهض بعجز نحوها، فض الظرف، أخرج الورقة المطوية على أربع، وتمتم بمحتواها بينه وبين نفسه.. كأنه يخشى، أن تسمعه الحيطان المحيطة به، فتهوي على عروشها حزناً على حب موءود.
"لم أعد أطيقك ولا أطيق رسائلك"
كانت تلك الكلمات وحدها كافية أن تقتل ما تبقى من حياة فيه.. كانت حروفها تصرخ في وجهه، وتعربد ملء عنفوان الأبجدية، ممزقة صمت المكان، ومزلزلة لكل كيانه من جذوره.
أحس أن صعقة كهربائية اخترقت دواخله، حتى توقفت كل الحواس عن أداء وظائفها كما كانت.. شعر بأشعة هاتفه تغيب في حرف "الكاف"، مخلفة وراءها سلطة الحزن، وجبروت ظلام الغرفة الدامس، الذي سطر على وجهه المتعب كل خطوط الإنهاك.
لحظتها، مد يديه وأسدل ستار الكلام على نفسه التي رآها تندثر بلا هوادة أمامه، وغرق في موجة صمت عجزت لغته فيها عن البوح والإفصاح.
فتح قوس مونولوغ مع قرينه، أو ذلك الإنسان الآخر الذي يسكنه، والوحيد الذي تحمله طول مسير العمر.. فهمهم صدى الكلمات، ودمدم:
"من عصر غيمة الكآبة، فوق رأسي فأمطرت حزناً، من أين لها هذا البذخ الوحشي، من الألم والجفاء، الذي دفن في عمقها؟!.. كيف لم أنتبه في ما مضى، أن عطبي كان هناك؟ وأنني سريع العطب من تلك الناحية؟! لماذا وكيف، جمعت في عينيها كل أشيائي، وعتقت طفولتي الهاربة، أشواقي المختطفة، لواعجي المسروقة، وحبي المقتول؟!.. كيف من نفسي كونت من حيث لا أدري – بيضاً – ووضعته في سلة قلبها، دفعة واحدة..".
أي صرخة مجروحة ومبحوحة، كإدفار مونش، كانت تملأ حلقه، عندما تبول عليه الحب وبلله بالشقاء؟.. أي ذاكرة حسية، مبعثرة أمام عينيه، حين يقلب ألبوم الصور؟.. أي العيون ستطاوعه لتحبس دمعة تريد الخروج من تسييج الجفون، صافية كالفجر تريد رمي مرارة الألم وهي تخرج؛ لتستريح الروح المنهكة والمنتهكة؟!
ها أنا ذا راحل يا أنا، ولا شيء معي إلا بقايا رماد الحب، وأسئلة معلقة على رأسي كسبارتاكوس، يا روحي المجنونة، وهبلي المشتهى وحماقاتي الحلوة.
راحل، ولا شيء معي إلا مما مضى، إلا أصداء قبلة الحب الأولى، والأخيرة.
ها أنا راحل يا فيروز التيه، بعد أن فشلنا بالوفاء معاً، بعهد قطعناه معاً.. نم حبيبي نم.. فالدنيا لم تكن عادلة يوماً معي.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.