الجهل كبنية ووسيلة!

كم من الجهد والكرامة يمكن أن نحفظ، إن نحن التزمنا بقليل من الاحترام لأنفسنا وللآخرين وبشكل أسمى للحقيقة التي نحاجج باسمها وندعيها بكل عنجهية. فالإنسان بطبيعته يسعى لإثبات وفرض رؤيته، ولا يدع غالباً مجالاً للقول باحتمال وجود جزء يسير ضعيف في فكرته..

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/22 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/22 الساعة 03:39 بتوقيت غرينتش

نحت محمد أركون مفهوم الجهل المؤسَّس، وقصد به تأسيس المدارس والجامعات العربية للجهل، حيث يصبح الإنسان مضيفاً وحاملاً للجهل فيمرر بِنْية الجهل التي اكتسبها متجلية في معتقداته وسلوكياته للآخرين، ومن يأتي بعده. يعرّف الجهل بأنه عدم العلم بالشيء وقد قُسِّم لنوعين، الجهل البسيط وهو عدم العلم بالشيء واقتناع الإنسان بأنه يجهله فيسعى لتعلم ما يجهل، والجهل المركب الذي يختلف عن سابقه بكون الإنسان لم يدرك جهله للشيء بعد، وهذا النوع منتشر كثيراً في المجتمعات المتخلفة.

قليلة هي الأعمال الفكرية التي بحثت في موضوع الجهل وحاولت تفكيكه، فقد اهتم الإنسان بالعلوم وتتبع نشأتها وتطورها وحاول تسليط الضوء على الأماكن المعتمة على بحر الجهل الممتد. ويعتبر المفكر السعودي إبراهيم البليهي أن "طريقة التفكير والحكم على الأشياء خارج النطاق الضيِّق للتخصص يبقيان محكومين بالخريطة الذهنية والوجدانية السابقة للتعليم"..

فرؤية المتخصص لقضية معينة ليست هي رؤية متخصص في مجال آخر لنفس القضية، فما يكتسبه الإنسان طوال فترة تعليمه يساهم في تكوين منهج خاص به في كيفية تعاطيه لأمور الحياة وتفاعله معها.

وتسود -حسب البليهي- فكرة عدم تكون المعرفة كرؤية عامة، "فالتخصصات تأتي كقطاعات متمايزة منفصلة، بل وأحياناً متنابذة ولا تشكل نسيجاً متماسكاً"، فمعرفة الإنسان تستوجب استلزاماً أن يكون جاهلاً قبل أن يدرك الشيء ويعرفه، وحتى معرفته هذه ليست بالكاملة، ويرجع هذا لطبيعته غير الكاملة.

يمكن تصوير المعرفة بجميع تفاصيلها بمستوى هندسي، وتقتضي معرفة الإنسان بشيء ما، معرفةَ العلاقات التي تربطه بما يجاوره من أشياء في محيط المعرفة الكاملة، وكلما أدركنا هذه العلاقات أكثر، جاز لنا أن ننظر للشيء من زوايا متعددة..

فمعرفة الإنسان مكتسبة عن طريق الحواس، ومتغيرة لأنه قد يحدث أن تكون المعلومة المكتسبة خاطئة، ومتجددة بمعنى عدم الإحاطة بالشيء من أول وهلة، وهذا فرق جوهري بين علم الإنسان وعلم الله، فعلمه عز وجل غير مكتسب وثابت وواحد كامل.

ما يمكن أن نستنتجه مما سبق أن محيط الجهل شاسع جداً، مقارنة مع مقدار ما يعلم الإنسان. فالجهل نظام فكري تتركز قوته في مجموعة من الأفكار، تعمل على التحكم بالعقل ببناء حصن يمنع أي محاولة لتحطيم أسس ذلك النظام. فقد يلبس هذا الجهل لباساً دينياً، وقد يقود الشخص إلى الجهل بحقيقة نفسه وحتى حقوقه كإنسان ويتسبب بدمار من حوله، وبتعبير آخر فالجهل عبارة عن نقاط سوداء متصلة بينها، تشكل غشاوة على عقل الإنسان صعبة الاختراق.

حتى يتضح مقصودي بكون الجهل يشكل منظومة فكرية، فهو في كل مجال يزرع أذرعه حتى يتقوى ويستطيع السيطرة على عقل الإنسان، بإيهامه بامتلاك المعرفة وتسهيل سيطرة الآخرين عليه. وللجهل ارتباط قوي بالتخلف، فما تخلفت دول العالم الثالث سوى لابتعادها عن استعمال سلاح المعرفة ورهن مصيرها بخرافات أو فهم خاطئ لمعتقداتها، كالدين بالنسبة للبلدان ذات الأغلبية المسلمة دون نسيان طغيان مجموعة من الروايات الشفهية والأساطير التي تكرس النفسية الانهزامية والجمود الفكري.

في الحقيقة إن الجهل هو ذلك الصديق العدو الذي نلومه على عدم استطاعتنا الخوض في التفكير في موضوع مؤرق، مما يجعل عيش الإنسان في هذا الوضع أشبه بسجن بدون قضبان، صديق لأنه يمكننا أن نحتمي وراءه حتى يمتص الضربة ونعود لحياتنا بشكلها العادي، وعدو لكون أي محاولة للانعتاق منه تقابلها مقاومة من آليات نظام الجهل الفكري.

إذا كان الجهل بهذه القوة والتأثير، فلا يجد الإنسان أمام رغبة السلطة والتحكم سوى أن يستغله كي يصل لمآربه. فعلى مر التاريخ شهدت البشرية استغلال العديد من ذوي النفوذ، سواء منه الديني أو السياسي أو العلمي أيضاً، لجهل الناس وعدم وعيهم بما يضمره هؤلاء. ولكي يصل هؤلاء الأشخاص لهذا المستوى من القدرة على العبث بعقول الناس وتحريكهم كما أرادوا، لا بد أن يمتلكوا نصيباً كبيراً من الذكاء والدهاء للتحكم بالجماهير.

سرد طريقة كل من هؤلاء أمر سيطول وسيتشعب، لذا فسأركز على حالتين اثنتين منتشرتين يتم تكريس الجهل من خلالهما في أي مجتمع إنساني..

الحالة الأولى: الجهل والبروباغندا

عند مخاطبة الجماهير، يختار الخطيب ما يريد من الكلمات التي تخدم غايته وهو أمر مطلوب، وقد يستغل جهل الناس بمجموعة من الحقائق ويزيفها حتى يكاد يظهر بثوب الضحية بعدما كان في نظر الناس جلاداً، لكن ما الذي جعل هؤلاء يكتفون بما يقول الزعيم أو الشيخ، أهو كسل أم اقتناع؟

يصعب الجزم بأنه اقتناع بمدى صدق وصوابية كلام المتحدث، فموقع المتحدث يحيطه بهالة من القدسية التي تجعل كلامه قابلاً للتأويل الإيجابي، أي فيما يصب في مصلحة الناس، كما ينعدم وجود الفرد داخل الجماعة، فتصبح هذه الأخيرة ذاتاً واحدة متجانسة ويرتفع منسوب العاطفة لدى الأفراد وتنخفض طاقة التفكير، وقليلاً ما يخرج أفراد من هذا الجمع حتى يفكر فيما لم يقله المتحدث، فمهما حاول أن يُخفي عنهم ما يجهلون يظهر بين ثنايا كلامه ما لم يقل.

وطبيعي أن تحاول الفئة المؤمنة بالخطاب السائد أو ذات الأيديولوجيا المشتركة، أن تضم تلك الفئة القليلة غير الراضخة لها حتى تلتهمها. وهذه الظاهرة ليست هي الوحيدة التي يمكن أن نتحدث عنها، فاستمرار الجهل رهين بالمجتمع نفسه، فهو الذي يسقي للجهل جذور انغراسه في عقله -أي المجتمع- الخاص وهو الذي بإمكانه قطع تلك الجذور عن طريق العلم الذي ينير الطريق.

الحالة الثانية: الجهل بالمعنى

العقلانية والعلمانية على سبيل المثال، مصطلحان كثيراً ما يُساقان في نقاشات العامة من الناس، وما يلاحَظ أنها في عقل الناطق بها سُبّة، ويرجع هذا بصفة عامة وفي غالب الأحيان إلى غياب المعنى في عقل الإنسان، خصوصاً إذا كان موضوع الحوار يتطلب معرفة متخصصة، كما أن هذا الأمر ينتشر بشكل لافت في المجتمعات التي تكرس فكرة الرأي الواحد، ويتم التخويف فيها بخطر الأفكار الجديدة. والجهل بماهية الشيء وطبيعته هو جهل مركب يجعل المتحدثين يخوضون في قضية هم لمعناها وثناياها جاهلون ولجهلهم بها غير مدركين.

فكم من الجهد والكرامة يمكن أن نحفظ، إن نحن التزمنا بقليل من الاحترام لأنفسنا وللآخرين وبشكل أسمى للحقيقة التي نحاجج باسمها وندعيها بكل عنجهية. فالإنسان بطبيعته يسعى لإثبات وفرض رؤيته، ولا يدع غالباً مجالاً للقول باحتمال وجود جزء يسير ضعيف في فكرته..

قد يبدو هذا الكلام مثالياً، وتحقيقه أمراً صعباً للغاية، إلا أنه وكما قلت فنمط التعليم الذي يجعل الإنسان متخصصاً في علم معين وغير مدرك لكمِّ ما يجهل في العلوم الأخرى، يُنتج لنا إنساناً محدود الرؤية رغم قدرته على الإبداع في مجاله، ومحدودية الرؤية هذه تتفاوت من مختص لآخر وأقصاها مر.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد