مرَّت حُمى الانتخابات المغربية بفوز الحزب الإسلامي "العدالة والتنمية"، بعد صراعات سياسية محمومة بين الأحزاب السياسية، لكن المغرب كسب الرهان الديمقراطي، وكسب معه الانتقال السلمي للسلطة دون أي نزاعات أو توترات سياسية، واستمراراً لمسلسل الاستثناء المغربي كنموذج يحتذى به في المنطقة العربية.
السياق السياسي
تعتبر انتخابات السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2016 ثاني انتخابات بعد الربيع المغربي وانطلاق احتجاجات 20 فبراير/شباط 2011، تمت كتابة دستور جديد يعيد تجديد المشهد السياسي للمملكة والتوجه نحو ديمقراطية متدرجة على حسب مدى تأويل الدستور الجديد والقدرة على ترسيخه في روح القوانين والسلوكيات السياسية.
هذه الانتخابات كان يتصارع فيها أكثر من 30 حزباً حول 395 مقعداً في البرلمان، والحزب الأول يخول له دستورياً تشكيل الحكومة، من خلال إنشاء تحالفات سياسية، إن لم يحصل على أغلبية مريحة، خصوصاً أن نمط الاقتراع لا يساعد على ذلك، وبالتالي فالتحالفات حتمية سياسية لا مفر منها لتشكيل الحكومة المرتقبة في الأيام القادمة.
أما بالنسبة للحملات الانتخابية، اختلفت من حزب لآخر، حسب المرجعية الأيديولوجية لكل حزب، لكن الجديد في هذه الحملات الاستخدام المكثف للإعلام الجديد كوسيلة للتواصل السياسي مع المواطنين، وهنا نقر بقوة حزب العدالة والتنمية في هذا الصدد، وهي نقطة تحسب له، إضافة لإدراكه أن القيم المجتمعية والفكرية تتغير، والوسائل التقليدية باتت متجاوزة.
في المقابل، بعض الأحزاب قامت بحملات باهتة لا تساير التطورات المجتمعية واعتمادها على غير المناضلين في المشاركة في الحملات الانتخابية، فعشرات الفيديوهات تبرز هذه السلوكيات التي أضرت بالأحزاب التي لا تعير اهتماماً مسؤولاً لمدى أهمية التواصل السياسي في كسب مزيد من الأصوات.
قراءة في نتائج الانتخاب
نبدأ أولاً بنسبة المشاركة التي شكلت 43 في المائة، وهي نسبة معقولة نوعاً ما كمقارنة مع بعض الديمقراطيات العريقة التي تكون فيها نسب أقل كما يرى البعض.
في المقابل، هناك من يرى أن مقاطعة الانتخابات البرلمانية تبقى سلوكاً سياسياً يجب احترامه ودراسته من طرف الإدارة والمختصين، فمن الضروري تحليل سلوك هذه الفئة: لماذا لم تصوّت؟ هل هناك خلل في الشرعية السياسية؟
فالمقاطعة مشاركة سياسية تحمل الكثير من الدلالات والمؤشرات، أما بالنسبة لنتائج الانتخابات كملاحظة أولية تتمثل في حدوث تغيير كبير في المشهد السياسي الحزبي، وإفراز قطبية سياسية جديدة يتصارع حولها حزبان أساسيان: "العدالة والتنمية" و"الأصالة والمعاصرة"، فيما الأحزاب الأخرى عرفت تراجعاً كارثياً يجعلنا نطرح السؤال التالي: ماذا حدث؟ سؤال يجب تفسيره والإجابة عنه من طرف الأحزاب المنهزمة.
في العلم السياسي هناك ما يسمى "الرابحون"، وهنا نتحدث عن الفائز في هذا الاستحقاق حزب العدالة والتنمية بـ125 مقعداً، ويرجع ذلك إلى القدرة التواصلية السياسية المحترفة لهذا الحزب ووعيه الشديد بضرورة التواصل مع كل الفئات العمرية بوسائل تواصلية مختلفة؛ حيث اعتمد على الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي والمهرجانات الخطابية القوية والمكوكية دون أن ننسى المناضلين المنتسبين لهذا الحزب الذين يتميزون بالانضباط الكبير، وتوافر الحزب على طاقات بشرية مؤهلة وأطر مكونة سياسياً، إضافة إلى كتلة انتخابية قوية يصعب اختراقها في الوقت الحالي.
في المقابل، حزب الأصالة والمعاصرة احتل الرتبة الثانية؛ حيث ضاعف عدد مقاعده من 47 مقعداً سنة 2011 إلى 102 مقعداً سنة 2016 بشكل يطرح استفهامات كثيرة، أهمها كيف وصل هذا الحزب إلى هذه النتائج الجيدة وهو حزب وُلد البارحة سنة 2009؟ فهذه النتائج تتطلب تاريخاً نضالياً طويلاً يستوجب سنوات كثيرة لبناء مشروعية سياسية وتاريخية حتى يصل إلى 109 مقاعد، في حين لم يتجاوز تاريخه السياسي إلا بضع سنوات.
فهذا الحزب وُلد من رحم حركة كل الديمقراطيين ثم تحول إلى حزب سياسي بدأ يحرث المشهد السياسي ذهاباً وإياباً، ولا أحد يمكن صد جراره، لولا "الربيع العربي" لكان له شأن آخر، فكيف لحزب جديد بدون مرجعية تاريخية يصل إلى هذه المرتبة؟ هل استفاد من قربه للسلطة أي الدولة العميقة؟ هل استفاد من الترحال السياسي؟ "سياسيون كانوا في أحزاب واختاروا الوافد الجديد القريب من السلطة"، الذي كان بالجملة، خاصة من الأعيان الذين يريدون المزاوجة بين المال والسلطة والامتيازات، هناك من يدافع عن هذا الحزب ويرى أنه فك ارتباطه مع السلطة وبدأ يشتغل اعتماداً على نفسه، انطلاقاً من مراجعة ذاتية وتخلصه من الولادة المشوهة التي تقدح في حيثيات ميلاد هذا الأخير، وبالتالي استطاع الحزب أن يقنع المواطنين ببرنامجه الحداثي، مما مكنه المرتبة الثانية بدون أي تدخل أو تميز من طرف السلطة.
الأحزاب الخاسرة تراجعت بشكل كبير، أهمها أحزاب مخضرمة يعود تاريخ بعضها إلى فترة الاستعمار، أهمها حزب الاستقلال، ثم بعد ذلك الاتحاد الاشتراكي والحركة الشعبية والتقدم والاشتراكية، وذلك راجع إلى المشكلات الداخلية لبعض الأحزاب، وتغيير بعض قناعاتها التي أضرت بها كسوء تموقعها ومعارضتها غير البناءة والشعبوية في الحياة السياسية، إضافة إلى ضعف تواصلها مع المواطنين، كما نرصد كلما تقوى "الأصالة والمعاصرة" وازداد نفخه، فقدت هذه الأحزاب مقاعد لها في البرلمان، فهذا الأخير يأكل من القواعد الجماهيرية الخاصة بهذه الأحزاب، إضافة إلى بعض الأخطاء الاستراتيجية لها، التي اختارت فيها الاصطفاف مع حزب الأصالة والمعاصرة المعروف بقربه من الدولة العميقة "المخزن"، مما جعل الفعل الانتخابي المغربي يعاقبها في هذا الاستحقاق التاريخي.
زلة لسان وزير الداخلية المغربي
زلة لسان كان لها طعم آخر في أثناء الإعلان عن نتائج الانتخابات، حيث كان كل المغاربة متسمرين أمام شاشات التلفاز مترقبين النتائج الرسمية، فالكل لاحظ كيف ظهر السيد الوزير وبدأ بسرد النتائج وتلعثم وبدل أن يقول فوز "العدالة والتنمية" قال فوز حزب الأصالة؛ ليتراجع ويصحح زلته ويتدارك الأمر، ويعلن فوز "العدالة والتنمية"، فيديو هذه الواقعة منتشر على صفحات فيسبوك بشكل كبير؛ لتنطلق التندرات، كما نالت هذه الواقعة الآلاف من التعليقات على صفحات الفضاء الأزرق، وكلها تسير نحو ما كان من السيد الوزير.
فزلته كما ترى التعليقات تقول الكثير وتعبر عما في نفس الدولة العميقة "المخزن"، فحقاً ما أبطن المرء شيئاً إلا وظهر في فلتات لسانه، إضافة إلى تهنئته التي جاءت بطعم السم؛ حيث هنّأ حزب العدالة والتنمية، وفي نفس الوقت هاجمه هجوماً عنيفاً ضارباً بعرض الحائط كل الأدبيات السياسية التي تلزم الحياد من طرف الدولة، وأخذ نفس المسافة مع كل الأحزاب.
ما جاء في كلام الوزير انزلاق سياسي خطير كان يجب تجنبه، بل على العكس أكد الانطباع الشعبي لعدم حيادية السلطة، وأنها طرف أساسي في صناعة المشهد السياسي، رغم أن الدستور والقوانين تلزمها الحياد الإيجابي.
من حق أي حزب والشعب المغربي التشكيك في سلوك المخزن، وهو معذور في ذلك، فالتاريخ الطويل لوزارة الداخلية في التحكم في نتائج الانتخابات ليس ببعيد، والتقارير والفيديوهات وما تناقلته صفحات التواصل الاجتماعي ومسيرة الدار البيضاء المشبوهة تثبت مدى نفخ السلطة لحزب معين، وتدخلها في لب الصراع السياسي، وهذا ما يسمى بالتحكم المغربي الذي انهزم أمام معركة الوعي والتوجه الديمقراطي كخيار استراتيجي لا مفر منه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.