صفعةٌ قاصمة استطاع أن يوجهها مصباح أبو صبيح لأجهزة الأمن الإسرائيلية؛ حيث تمكن رغم التشديد الأمني، والحواجز العسكرية، والتفتيش، والمتابعة الدقيقة، من الوصول إلى منطقة أمنية حرجة تعد من أكثر المناطق الإسرائيلية تحصيناً في مدينة القدس المحتلة؛ لينفذ عملية غير متوقعة من قِبل هذه الأجهزة، التي كانت قد تحدثت عن إمكانية حدوث عمليات فدائية فلسطينية عشية الأعياد الإسرائيلية، تنفذ بالطريقة الفردية المتبعة من المقاومين الفلسطينيين في انتفاضة القدس، وحسب قواعد اللعبة المعهودة، وعبر السياق نفسه.
وظنّت أذرع الاحتلال، في أكثر السيناريوهات سوءاً، أن شاباً عشرينياً سيهاجم بسكين جنودهم المدججين بالسلاح؛ فيوقع فيهم إصابات طفيفة، أو حالات هلع في صفوف المارة، أو أن فلسطينياً سيُداهم حشداً من المستوطنين بسيارته لا أكثر.
فكانت عملية مصباح أبو صبيح خروجاً عن المألوف، وتمرداً على المعهود والمتوقع؛ حيث نفذها بسلاحٍ نوعي -على الأقل بالنسبة للعمليات السابقة- مستخدماً بندقية "إم 16″؛ ليغرق مخابرات العدو في تساؤلات لا قاع لها، وتحليلات لا متناهية حول العملية وحيثياتها، ويفتح عليهم خيارات غير محصورة، ويضعهم أمام تحدٍّ حقيقيٍ لحل لغز عمله الفدائي.
فمن أين؟ وكيف حصل على السلاح والتمويل؟ وهل تلقى أي نوع من التدريبات العسكرية؟ فمهارته العالية في التنفيذ وشجاعته الكبيرة في التنقل من نقطة إلى نقطة، وإطلاق النار أثناء قيادة السيارة بسرعة فائقة، وهل محض صدفة أن يكون من القدس؟ وأن يكون ميدان التنفيذ في منطقة من مناطق القدس المحتلة التي شهدت قبل أيام تشييع جثمان الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيريز بمشاركة من بعض الزعامات والقيادات الفلسطينية والعربية، في مهزلة كبرى واستخفاف غير مسبوق بالمشاعر الفلسطينية.
شخصية المنفذ ذاتها صفعة أخرى للمخابرات الإسرائيلية فهو كبير في السن، وراشد، وليس من السهل أن "تحرّكه العواطف أو المشاعر" لتنفيذ عملية فدائية، ومطلوب أيضاً للاعتقال بتهمة التحريض على العنف، واعتقل أكثر من مرة ووضع تحت المراقبة والمتابعة الأمنية، فكيف لم تستطِع كل أذرع الاحتلال التكهن بنيته تنفيذ عملية تحتاج إلى وقت كافٍ من التخطيط والتجهيز المسبق والدقيق؟
ويشكل مثلث العملية كذلك صفعة قوية لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ولمن شاركه في تلك الجريمة المستفزة التي تجاهلت مشاعر الشعب الفلسطيني، واستهزأت بجراحه وآلامه وتضحياته وشهدائه، وكانت بمثابة جناية غير متوقعة ولا مستوعبة من رجل ثمانيني، أوغل علقماً في قلوبنا المنقبضة من أثر الجرائم الإسرائيلية، وزادنا بفعلته وجعاً على وجع.
عملية القدس صفعة حقيقية لطمت وجوه قادة العدو وضباط مخابراته الذين استوطنوا ديارنا وترعرعوا على اضطهادنا، تنبئهم أنه ما زال هناك منتقم جاهز للفداء بدمه وروحه، وما زال هناك نِدٌّ لا يقبل أن يهان شعبه، أو أن تدنس مقدساته، وسيخرج في أي وقت، ومن أي مكان وفي ظرف مختلف، وبتخطيط متقن، وتكتيك جديد؛ ليمثل تحدياً آخر يشهد على إخفاقهم وفشلهم، فلا يغرّنّهم المداهنون لهم والمتواطئون معهم، فإرادة الأحرار تغلب جبروتهم وطغيانهم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.