تسببت وثيقة وطن للجميع، المعروفة إعلامياً بمبادرة واشنطن، في إثارة حالة من الجدل بين المعارضين للنظام الحاكم في مصر، فما بين قبول ورفض، وما بين اتهامات بالعمالة والتخوين، دارت رحى معركة روتينية اعتدنا أن نشاهدها تلقائياً حال ظهور أي مبادرة تحاول جمع شتات فرقاء الثورة المصرية المجمدة.
الآلاف من الألسنة احترفت التنظير، وبات الكل يبحث عن مصالحه الضيقة، دون تقدير للموقف الذي ما ازداد سوءاً إلا بفعل هذا التشرذم الذي صار داء أصاب الجميع، وما بين تلك المبادرة أو ما سبقها من مئات المبادرات، نجد أن أصحاب الألسنة المبغبغة هُم هُم من يطلون علينا بأوجههم العابثة، وعقولهم البائسة، وعزيمتهم اليائسة، وجميعهم على نفس الشاكلة، وإن اختلفت توجهاتهم وانتماءاتهم السياسية العاجزة، الجميع يهاجم بشراسة دون أن يعطي صاحب الرأي الآخر حقه في التعبير عن فكرته، ودون أن يقدم نقداً بناء أو أن يقدم رؤية واضحة للبنود المختلف عليها.
فإذا ما سلطنا الضوء على المواقف المتباينة بين القوى السياسية المختلفة في الخارج، والتي دائماً ما تحاول أن تفرض أجندتها على القوى الأخرى دون اكتراث لما يعانيه أبناء الثورة المصرية في الداخل من قتل وتنكيل واعتقال ومطاردة، نجد أن جميعهم قد تفرغوا طواعية لاختلاق الأزمات بين بعضهم البعض.
فالتيار المدني "كما يطلق عليه" لم يستطِع طوال تلك الفترة الاتفاق على أجندة واحدة تجمع أبناء التيار، والكل صار يحلق منفرداً خارج السرب، ويعمل وفق أهوائه، رافضاً جميع المبادرات التي تخرج عما يطلق عليه تيار الشرعية، الذي تقوده جماعة الإخوان، وما يتبعها من كيانات، والعكس صحيح، حيث ترفض جماعة الإخوان أي مبادرة لا تخرج من عباءتها "مقاس small"، بل وتكيل الاتهامات إلى صانعيها، مطلقة عليهم بعض الدخلاء على العمل الإعلامي، من أمثال حمزة زوبع، الوريث الشرعي لتوفيق عكاشة في الإعلام المصري.
ولعل من كتب له حظه السيئ متابعة حمزة زوبع بفعل خاصية "الإشراف العائلي"، يعلم تمام العلم أن القول المأثور "العيب في النظام يا بهايم" لخالد الذكر "برايز"، حقيقة لا تقبل النقاش، فإذا كان قيادياً بالحزب والجماعة وهما "Don't Mix"، يمتلك هذا القدر من الضحالة في التفكير، فكيف لهذا الكيان أن يواصل المسيرة، ساعات وساعات على الهواء، ولم يخرج علينا زوبع وضيوفه بأي نقد بناء وحقيقي لتلك المبادرة، وتفنن الجميع في الدوران حول فلك عدم وجود ما تسمى بمادة الهوية، والتي تنص على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وربما لو أعطى زوبع وضيوفه لأنفسهم الفرصة للبحث عن تاريخ تلك المادة التي لم يسعَ الإمام حسن البنا ولا قادة الجماعة الأول لوضعها في الدستور المصري، لاكتشفوا أن ظهورها للنور لأول مرة كان على يد أنور السادات في دستور عام 1971، وذلك بحثاً منه عن شرعية تميزه عن نظام عبد الناصر من خلال إضفاء طابع ديني على الدولة.
فنص الدستور على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع"، وحينها أطلق على السادات لقب "الرئيس المؤمن"، ومن سخرية القدر أن من روج لهذا اللقب هم الإخوان أنفسهم، وبعيداً عن هذا اللقب، إن فضل البعض ذكره بحرفي "الهمزة فوق الواو"، أو إن فضله البعض الآخر بحرف "الدال"، فإن السادات قد عاد وأدخل تعديلاً عليها في عام 1980، لتصبح "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وذلك لتمرير تعديل آخر ألا وهو تعديل المادة 77 من الدستور، التي أعطت الفرصة لإطلاق مدد ولاية رئيس الجمهورية دون حد أقصى، فكم من الجرائم قد ارتكبت من وراء حجاب المادة الثانية من الدستور المصري، يشهد عليها ذلك الفساد المستشري في جسد البلاد، وتلك الجرائم الإنسانية والأخلاقية التي ترتكب في حق العباد منذ عام 1971 وحتى الآن.
وعلى الرغم من وجود هذه المادة في الدستور، نجد أن هناك قوانين تسخر منها بطريقة غير مباشرة، كالقانون المحدد لمواصفات بدلة الرقص مثلاً، كما نجد أنه وطوال مدة وجود تلك المادة بما فيها السنة التي حكم فيها الإخوان مصر، و"الدين" لا يضاف إلى المجموع، ويعامل معاملة "الألعاب".
وحتى أقطع الطريق على بعض المصابين بمرض الهجوم اللاإرادي، داحراً الاتهامات المتوقع توجيهها لي بالترويج للعلمانية أو السعي لعلمنة الدولة من قبل المدافعين باستماتة عن وضع "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع" كمادة ثانية، لا يجب حتى أن تتراجع في الترتيب إلى الثالثة، فلنفسح لهم المجال تماماً كي يستمتعوا برفاهية العيش في هذه البلاد في وجود تلك المادة، على الرغم من وجود هذا الكم من الفساد، داعياً إياهم للاستمرار في تكرار بعض الكلمات ذات المعاني الجوفاء من نوعية "الشعب المصري متدين بطبعه"، مطالباً إياهم بطرح أخطر قضية خلافية بينهم كأبناء تيار إسلامي واحد، والتي قد تتمثل في جواز غناء أغنية "مصر إسلامية" بالإيقاع من عدمه.
وأخيراً أحب أن أطمئنهم جميعاً، فالعلمانية غير صالحة للتطبيق في مصر إطلاقاً، لا لأن مصر إسلامية، ولا لأن شعبها متدين بطبعه، ولكن لأن العلمانية نظام يقوم على فصل الدين عن الدولة، وهنا لا يوجد دين ولا دولة، فعلى من ستطبق إذن؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.