"ديمقراطية"، صغيرة ليست ككل الصغيرات، تفرح بمقدم عيد ميلادها وتنتظر احتفال أهلها ومحبيها بمقدمه، بل تتوجس خيفة من هذا التاريخ، ويخفت نبضها، وتتأمل أن تتسارع دقات قلبها علها تسعفها في الصمود في عيد اختبارها.
"ديمقراطية" فتاة وديعة تحمل كل معاني العدل والحق والمساواة، فتاة هيجت القلوب والمشاعر وأسالت الدماء وضاع من أجلها شباب في ريعان العمر.
"ديمقراطية"، شعار رنان للمتملقين والوصوليين، فرصة لاستمرار تحكم المتنفذين، لكنها كابوس مزعج للمتغولين والظلمة والانتهازيين، وأمل في عيش كريم للمقهورين.
"ديمقراطية"، مطية للركوب على حقوق العباد، نوتة افتتاح المزاد على البلاد، ولمن خاف مقام ربه دعوة حق لمحاربة الفساد.
"ديمقراطية" تلك الفتاة التي أبصرت النور قبل خمس سنوات، خرجت من رحم الشعب في عملية ولادة قيصرية صعبة امتدت من صبيحة 20 فبراير/شباط، وعرفت مخاضات وهزات حتى ألقت بآخر عوالق الوضع يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني، ورسا الاختيار على من يكفلها ويرعاها.
"ديمقراطية" ليست أول المواليد في وطننا، بل سبقتها للوجود جثة حملت نفس الاسم وعمرت خمسين سنة مما نعد من السنين، كانت جثة هامدة تقلب ذات اليمين والشمال، والشعب الذي يفترض فيه شرعية الأبوة واقف مكتوف الأيدي لا يملك حولاً ولا قوة سوى التأمين على ما يقررون.
لقد جربوا أن يبعثوا في الجثة روحاً وجاءوا برجل حكيم مع جمع من صحبه علهم لها منقذون، لكن الحكيم قبل أن يلعب لعبة خطيرة: حقن الجثة بالداء والدواء في نفس الحين، فما نجت الجثة، لكن الداء استحكم وأصاب جمع المعاونين الذين استقدمهم، فكان مهلكهم منذ ذلك الحين.
لم نكن نحلم برؤية "ديمقراطية"، ولا نأمل حلولها بيننا، لولا ذلك المندفع المحترق الذي خصب بويضتها بعيداً عن أرضنا، فنمت البويضة وانشطرت وانتشرت آملة الحصول على مواليد توائم بجنسيات مختلفة، ولله الحمد خرجت "ديمقراطية" في أرضنا بأقل الأضرار، وها هي ذي تطفئ شمعتها الخامسة، بينما استحال خروجها في الشام واليمن، واغتيلت عامين بعد مولدها في مصر، وما زالت تصارع للحياة في تونس.
من المفترض أن "ديمقراطية" هي من تقرر مصير البلاد والعباد، ترفع من تشاء وتخفض من تريد، والكل لها خاضعون ومذعنون، شتان بين المفترض والمفروض، "ديمقراطية" المسكينة ذبحت مرات كثيرة وضربت تحت الحزام حتى لا تقوم لها قائمة.
الجميع شارك في تعذيب "ديمقراطية" والتنكيل بها، فمن انتخبه الشعب واختاره ليرعاها تخلى عن حقه في أحايين كثيرة وانزوى إلى ركنه صامتاً أو خرج في أحايين أخرى مزمجراً متوعداً، أما الأفعال فكانت ضد المستضعفين وفي تنفيذ خطط المتحكمين.
ظلت "ديمقراطية" بالنسبة له ورقة مفاوضة لتخفيف الضغوط وكسب الثقة، وهي تكبر أمام عينيه هزيلة البنية ضعيفة القوام كما تكون فارة من جحيم المجاعات، وإن استمر حالها على ما هو عليه سيستحيل التفاوض باسمها وستلحق بمصير سابقتها جثة هامدة من دون حراك.
ما وقع جعل البعض يرد بأن "ديمقراطية" شخصية أسطورية كشخصية الفينيق، وأن ما نحسبه "ديمقراطية" مجرد كائن مشوه ونسخة منقحة عن سابقتها، بل إن البعض منهم يجزم أن الجثة القديمة تململت وتحركت بخيوط رفيعة وحكايات جميلة، فانجذب الجميع وانبهروا كما يبهر الأراجوز جمهوره، فهل هم صادقون؟
ما زلت أعتقد أن "ديمقراطية" تتطلع إلى الترياق الذي يحيي الأمل في انبعاث قوتها، تنتظر والدها الشرعي أن يهب لنجدتها، أن يدافع عن وجودها، أن يضخ في عروقها ذلك الدفق المتأمل في استمرارها، أن يحاكم ويحاسب جلاديها، أن يحسن اختيار رعاتها، أن يفهم اللعبة جيداً، وأن لا يكون وحده المجسد لشخصية الرجل الغر الطيب في مسرحية السياسة الموغلة في القذارة والألاعيب.
"ديمقراطية" في مفترق الزمن بين الحياة والممات، تتنازعها قوى الخير والشر، لعلها مقبلة على أهم اختبار في حياتها القصيرة، والأولى والأحق بنجدتها هم هؤلاء المنتظرون الذين يضعون أيديهم على قلوبهم خوفاً عليها، أو يشيحون بأبصارهم تبرُّؤاً منها، أو ينهشون لحمها طمعاً فيها، أو يعمدون إلى حمل أطرافها المترهلة ويصلبون قوامها ويقوون عودها.
هؤلاء جميعاً سيسألون عن "ديمقراطيتنا"، فإن هلكت فهم التالون، وإن نجت فبرعايتها هم ملزمون، فهل سيستجيبون؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.