دعونا في البداية نتفق على أنّ الانقلاب الأخير في تركيا لم يدعم من الخارج، أملاً في نجاحه بقدر ما دعم أملاً في تحقيق ظروف تفاوض أفضل مع الحكومة التركيّة أثناء حدوثه، وأنّه كان تجسيداً لمقولة السّادات: "هذه حرب تحريك لا تحرير"، هذا لأنه لا عاقل يغامر باستقرار تركيا، ومن خلفها استقرار الشّرق الأوسط وأوروبا ويبدّل نظامها المنتخب بنظام عسكري فاقد لأي غطاء سياسي، وأنّ الدعم الخارجي قد حصل فعلاً؛ لأن الجيش التركي بعلاقاته المتشابكة مع الناتو والولايات المتحدة لا يمكن أن يقوم بانقلاب من غير جس نبض هذه الأطراف على الأقل.
وكل هذا لا ينفي بالضّرورة نيّة الانقلاب الفعليّة لمن أعطوا أوامره على الأرض، ونفذه من ضباط وجنود، ولسنا هنا بصدد الحديث عن مجريات الانقلاب التي أسهب وأطنب بها الكثير، ولا عن أخطائه، وتردد بعض الجنود في إسطنبول -أو قلة خبرتهم- وشراسة معركة أنقرة، لكنّها هي ثلاث نقاط توجب الحديث عنها:
أولاها أحداث ما قبل الانقلاب من عام 2004 إلى اليوم، وثانيها ما نظنّ أنّه سيتغيّر في السّياسة التّركية، "أو ما هي الشّروط والتّسويات" الجديدة، والثّالثة هي ردود الفعل العربيّة الشّعبية بين نتائج تنظير أوغلو -قوس الإسكندر- والبحث الدّائم السّاذج عن الدّولة الجامعة وحلم النّهضة والنموذج الجاهز للتعميم.
ويجدر بنا في البداية الإشارة إلى أن السّياسة هي لعبة تحقيق أفضل ما هو ممكن في ظل الظّرف القائم، تحكمها المواقيت والتوازنات لا قصص الخرافة البطولية، ومن هنا بالذات نشهد لأردوغان بالدّهاء والفطنة والحنكة السّياسية، بدأت قصّة أردوغان وجماعة الخدمة بالظّهور في وسائل الإعلام عام 2004 لما أصدرت صحفية "طرف" التركية وثيقة لمجلس الأمن القومي التّركي تدعو إلى محاربة جماعة الخدمة بسبب بثّها للكراهيّة في المجتمع التركي، صائغ هذا القرار كان الجنرال "شينار أرويجور" وقد تصدّى له أردوغان وقتها بالرّفض، الذي تمّ استغلاله سابقاً في دوريّات الجماعة الدّاخلية لحشد التأييد لأردوغان ولاحقاً في "طرف" لمهاجمته مع إغفال موقفه "الرّافض" حينها وإثبات وجوده في الاجتماع للتلميح على موافقته للقرار، وهذا الجنرال نفسه قد سجن لاحقاً في قضية أرغينيكون الشّهيرة، وبعدها برزت قضيّة المدارس التّابعة لجماعة الخدمة التي يريد أردوغان إخضاعها للمناهج الرسميّة وتحويلها لما يشبه المدارس الخاصة بحجج رفع مستوى الطّالب التركي الأكاديمي، وتمّ تقديم هذا المقترح بمباركة فتح الله وجماعته بداية في عام 2004 ورفضه الرّئيس نجدت شيزار؛ لأن نفقتها ستشكّل ضغطاً مالياً على دولة.
أمّا بعد استلام حزب أردوغان الحكم قوبل هذا المقترح برفض حازم من الجماعة تحت شعار "لا تغلقوا أبواب الجنة" وتبعتها سلسلة الخلافات من سفينة مرمرة المتّجهة إلى غزّة، وتعيين هاكان فيدان مديراً للاستخبارات -القرار الذي لم ترحّب به واشنطن وتل أبيب- ومحاولة محاكمة الرجل في قضية محادثاته مع الأكراد -القضية التي حصّنه بعدها الرئيس من أي ملاحقة قانونية- وأحداث تقسيم، وتهم فساد وزراء الحزب الحاكم في ديسمبر/كانون الأول 2013 التي طالت أردوغان وابنه بلال أيضاً، وفكرة الكيان الموازي المتداخل في ومع صراعات الشّرطة والمخابرات الداخلية التي أشار لها أردوغان في ذكرى تأسيس الشرطة 170 عام 2015، التي هي كانت سبب مغادرة غولن البلاد عام 1999 بعد تسريب تسجيل له يحثّ أنصاره على التّسلل إلى مفاصل الدّولة وتشكيل هذا الكيان، الذي بالطّبع نفاه غولن واتهمه بالفبكرة، وتجدر الإشارة إلى هنا أنّ أعداد النّاخبين الموالين لكولن حسب التّقديرات هي من 3% إلى 8%، وقد تعكس هذه الأرقام تعداد هذا الكيان الموازي.
وهناك أيضاً خلافات البيت الدّاخلي للحزب الحاكم بين الرئيس والأستاذ تبعاً لملف البجع -اتهم أوغلو بالتباطؤ في صياغة النّظام الرئاسي الجديد وسحب البساط من تحت أردوغان ولمّح إلى إمكانيّة التضحيّة بالرّئيس في سبيل مصالحة كبرى إضافة إلى اتهام الرجل بجر تركيا إلى الصّراع السوري؛ لأنه لا يفرّق بين التّنظير الأكاديمي وأرض الواقع.
هذا الملف الذي لم يعلّق عليه الرّئيس ولم ينفِه، كما فعل مع تسريبات سابقة طالته وولده سابقاً، ولهذا أيضاً وُصِف الملف بأنّه اغتيال سياسي لأوغلو، والخلاف أيضاً مع عبد الله غول.
هذا إضافة إلى المواقف التركيّة الخارجيّة مع سوريا وروسيا والغرب ومصر والسعودية وقطر والإمارات التي تتقارب وتتباعد هي أبرز صفات المشهد التركي قبل الانقلاب المستعجل قبل أوانه.
أمّا المشهد بعد الانقلاب فهو يعكس مزاج المفاوضات الحاصلة أثناءه بين الحكومة التركية والقوى العالمية، التي يبدو أنّها حصلت وأردوغان بأضعف حالته، وهذا يعكس ذكاء الرجل الذي اختار هذا التّوقيت للتفاوض فهو يغري المفاوض بضعفه، ويلقي بورقة الشرعية وإنزال النّاس إلى الشّارع ومقاومة الشّرطة، إلى تلك اللحظة فيكون هو الضعيف القوي الذي لا مناص من التّفاوض معه، والوصول معه هو فقط إلى تسوية.
ويحمل هذا المشهد أيضاً تصفية حسابات لما كان قبل الانقلاب، يتجلّى هذا بالاعتقالات التي لا نعترض على وجودها، ولكن يريبنا تشعّبها بين العسكريين والأمنيين والأكاديميين وموظفي الدّولة والقضاء وغيرها وعددها الكبير نسبياً، ومطالبة صريحة برأس فتح الله، ومهاجمة علنيّة للولايات المتحدة -قد تخفي تحت نبرتها العالية اتفاقاً مسبقاً- وهناك أيضاً الظّهور المبالغ فيه أحياناً للخصوم في البيت والواحد، مثل أوغلو وغول، إضافة إلى أحزاب المعارضة بجانب الحكومة، وهذا ما قد يفسّر بتسجيل مواقف خوفاً من تصفيات حساب مستقبليّة.
أمّا المشهد الاقتصادي، صاحب نسبة التّضخم 6%، فهو متماسك بعض الشّيء إلى الآن مع تراجع لقيم الصّرف بالنّسبة للدولار بنسبة 6% و10% منذ أبريل/نيسان المنصرم، ووعود حكوميّة للاستثمار الأجنبي بمتانة الاقتصاد التركي، ودعوة للبنوك بالقيام بتسهيلات للاستثمارات المحليّة.
ومن هذا قد يبدو للمشاهد ما هي مكاسب الحكومة التركية من (مفاوضات) انقلاب التحريك هذا، من تصفية للخصوم واستقرار اقتصادي حذر (غير متوقّع حدوثه بعد أي انقلاب عسكري في بلد يعتمد بنسبة جيدة على الاستثمارات الأجنبية والسياحة).
أمّا مكاسب الأطراف الأخرى ستحملها قادم الأيام بالذات في ملفات تركيا الخارجيّة، وعلاقتها بالأزمة السورية والتّسوية الكردية.
أمّا ردّة الفعل العربيّة الشّعبية بعيداً عن تفاصيل الانقلاب ومجرياته ونتائجه، فهي مستقطبة بين مبجّل لأردوغان يكاد ينزع عنه صفة النّقص الآدميّة ويجد له مبرراً دائماً -استناد إلى الصورة المبالغ في كمالها التي يرسمها تاريخنا لخلفاء دولنا التاريخية وسلاطينها- وبين مشيطنٍ له لا يعترف له ولا لحزبه بفضل أو منجز يحاربه كمن يخفي الشمس بغربال.
وكلاهما ينظر إلى الحزب الحاكم التّركي على أنّه نسخة من الإخوان المسلمين، أو أحزاب الإسلام السياسي العربية، متناسين خصائص الدّولة الأمة التركية الحديثة، أضف إلى هذا أمراض العصر العربية من شخصنة الفكرة وعبادة الشّخوص في البحث الدائم عن الشّخصية الجامعة التي تعيد الأمل والنّهضة الفقيدين، والنّظرة الحالمة إلى الماضي التي لا تبحث عن شراكة بين التّراث والحاضر، بل تريد استرجاع الماضي كما هو فقط أو تريد إقصاءه والانقطاع عنه.
ستحصل على صورة مغايرة للواقع لا تعترف بأحكام السياسة العالمية ولا لواقع الدّولة التركيّة ومجتمعها التي ترى أتاتورك بطلاً وغازياً كالفاتح مثلاً، وأنّها الدّولة الأمّة القوميّة والمسلمة أيضاً، التي تسحب قوسها إلى الشّرق بأقصى اتساع حتى يتوغّل سهمها غرباً لأقصى مسافة.
وهذا الخلل في الرّؤية يحمل إشارات واضحة لكل الشّباب العربي من رموزهم ودولهم، وبحثهم عن نماذج رومانسيّة يتبعونها لتغطية الواقع، ويحمل دلالات واضحة على عدم الإلمام بعلوم الاقتصاد والسّياسة وحتّى التّاريخ عند شريحة واسعة منّا، وعلى تغلّب العاطفة الدينية على المنطق عند شبابنا.
ردّة فعل الشّارع العربي على الانقلاب تحمل دلالات المرض بنفس القدر الذي حملته ردة فعل الشّارع التركي على الانقلاب من دلالات للعافية، إلّا من رحم ربّي طبعاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.