عندما نجحت الثورة في تركيا وتألّفت الحكومة الجديدة في أنقرة، ألغى "أتاتورك" نظام السلطنة في سنة 1923، وأبقى الخليفة في إسطنبول دون أن تكون له سلطة زمنية، بعد ذلك بسنوات ألغيت الخلافة أيضاً، واستتبع ذلك إغلاق المحاكم الشرعية والهيئات الدينية في طول البلاد وعرضها، ولم تنجُ المدارس أو التكيّات من هذه الحملة.
الأهم من ذلك أن مبرري النظام الوليد لم يقفوا موقفاً سلبياً، بل استمروا يدافعون عن دينهم وعقيدتهم ويحاولون في الوقت ذاته أن يوفقوا بين دينهم وسائر النظريات الطبيعية والقوانين العلمية، كما حاولوا أيضاً إبراز المعنى الحقيقي لمصطلح "العامّة" – أي عامّة الناس – دون "الكهنة" – أي رجال الدين – رغم أنها تعتبر من وجهة نظر الكثيرين تفرقة مسيحية لا وجود لها في الإسلام.
صحيح أن التفرقة بين رجال الدين والعامّة لم تكُن أمراً هيناً، بحيث كان ذلك يستلزم نوعاً من السماحة والتفاهم بين طائفتين مُستعرتي الخصومة، إلا أن حكومة الجمهورية في أنقرة لم تكن على استعداد للتفاهم، بحيث أصرت على التخلص من التفكير الديني بكل مظاهره، لكنها سمحت لمن يشاء من مواطنيها بممارسة الشعائر الدينية ومزاولة كل الطقوس والعبادات متى أُريد ذلك.
إذن فقد سادت في تركيا، بدءاً من هذا التاريخ، روح التفكير الغربي، وبمعنى أدق: أضحت الفلسفة الوضعية الغربية هي السائدة بقوة الحكومة، وهو الأمر الذي جعل من تركيا في غضون سنوات قلائل "ضريحاً شرقيّاً" للفلسفة الوضعية.
صحيح أيضاً أن العلمانيين في أنقرة لم يؤسسوا للنظرية على مبدأ مستمد من جوهر الدين ذاته كالأوروبيين – لكنهم تمكنوا من التأسيس عن طريق الإبقاء على حكومة الجمهورية حصناً منيعاً للفلسفة الوضعية العلمية ولمدرسة التفكير الوضعي من جهة، والقضاء على ما يمكن أن نسميه "الفائض في التديُن والقِلّة في الدين" من جهة أخرى.
كل ذلك من خلال إطلاق رؤية متقدمّة للقانون الدستوري ولفقه الدولة – مقابل فقه الدعوة – على العموم.
أصبحت العلمانية، إذن، أمراً تدين به الدولة مقابل أن يتقدم المواطن طواعية بضمان أن يكون في آرائه ومعتقداته الخاصة خادماً أميناً للفكرة المجرّدة، ولكي يتم ذلك فقد شبّ جيل جديد من الأتراك – غداة الثورة – لم يتلقّ تعليماً دينياً تقليدياً ترعاه الدولة وإنما فُرضت عليه الوضعية الغربية بنفس العنف وعدم التسامح الذي كانت تلجأ إليه التحكميّة الإسلامية من قبل، لا نغفل أيضاً الضمانات التي وضعها أتاتورك ورفاقه لاستمرار حالة العلمانية حتى يومنا؛ حيث يغلب على السلطة هناك اليوم نظام ذو مرجعيّة إسلامية ويلعب نفس الدور الذي كانت تلعبه الثيوقراطية من قبل، ولكن في إطار دستور يكفل التعدديّة لا الإقصاء.
فبغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع سياسات حزب العدالة والتنمية – الحاكم – فإنه ما زال يمارس، ولو بصورة ناجحة نسبيّاً على الأقل، ذلك التفكير الحداثي، رغم المرجعية التي تبدو كلاسيكية تماماً، متماشياً مع روح الفقه الذي تتبناه الدولة كمقولة أعم من الحزب الحاكم.
لقد استغل الأتراك على مدار سني نظام أتاتورك وحتى اليوم، وباختلاف اتجاهاتهم السياسية الأضيق نطاقاً في الحكم والممارسات، وبخلاف الهزّات التي نالت جزئياً من المسار الديمقراطي عبر تدخلات عسكرية متقطعة، جميع الظروف التي أحاطت بهم..
استفادوا كثيراً من الحمية الوطنية المتقدة والجنوح المتزايد على مستوى الفرد قبل الجماعة نحو الإصلاح، والانفتاح الفكري منقطع النظير، فضلاً عن المقت الشديد للأفكار الثيوقراطية والهواجس التي سببتها حقبة "الدولة – الأمة"، يُضاف لكل ما سبق الأوضاع الجغرافية والامتداد الأناضولي، فضلاً عن الصلات التاريخية على مستوى الثقافة والأنثروبولوجيا مع الجوار وغيره، وسواء ما كان منها تلاقياً أو صداماً.
فخلق بكل ذلك وجدان المجتمع الوليد: طابع الاعتزاز العُثماني المُشرّب بالحداثة حتى النخاع، وبهذا الوصف فقد قُدر لتركيا أن تكون ملتقى تيارين من الثقافة، ومن التقاء هذين التيارين اتخذت الحياة العقلية في أنقرة مجرى جديداً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.