لماذا لم تسقط التجربة “الإسلامية” في المغرب؟

فصحيح أن العدالة والتنمية، ومن خلال أمينه العام، لا يكف عن إرسال رسائل مباشرة ومضمرة لطمأنة الملك ومحيطه، فحواها أنه لم يأتِ للمنافسة ولا الصراع على الحكم، لكن العارفين بخبايا الأمور على إدراك تام أن الرجل لا يثق في القصر، أو على الأقل لا يثق في المحيط والمؤسسات الدائرة به، والعكس صحيح طبعاً.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/11 الساعة 04:48 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/11 الساعة 04:48 بتوقيت غرينتش

عوامل كثيرة أسهمت في بقاء حزب العدالة والتنمية على رأس الحكومة، رغم كثير من الإجراءات القاسية التي قام بها خلال ولايته الأولى، والتي انعكست بشكل مباشر على الفئات الهشة والمتوسطة، وإن كانت أكبر مفارقة في نتائج هذه الانتخابات أن هذه الأخيرة التي كانت الأكثر تضرراً هي نفسها من منحت معظم الأصوات للحزب.

لكن بغض النظر عن العملية الانتخابية الأخيرة، وما أسفرت عنها من نتائج بوّأت العدالة والتنمية المرتبة الأولى لثاني مرة على التوالي، فإن علاقة القصر و"الإسلاميين" تحكمها عوامل متشابكة وبالغة التعقيد أكبر بكثير من العملية الانتخابية، ولا حتى من نتائجها، وإن كان المعطى الثابت إلى حد الآن هو أن كلا الطرفين لا يزال بحاجة للثاني.

فلم يكن صعود العدالة والتنمية لأول مرة، والقبول به كطرف داخل "النطاق المحرم" خياراً تلقائياً للمخزن بقدر ما أملته ضرورات المرحلة، إذ كان التحدي والهاجس الأكبر المهدد للنظام آنذاك هو كيفية إخماد الشارع الملتهب، الذي تم مع تحقيق جزء من مطالبه مقابل ذلك.

لكن هذا القبول -اللحظي- لا يعني أن الأمور يمكن أن تصل إلى التطبيع التام بين "الإسلاميين" والقصر، ومرد ذلك بالدرجة الأولى إلى أن مشروعي الطرفين على النقيضين تماماً، بل إن الأمر يصل في مستوى أعلى إلى نوع من الصراع الحقيقي على "شرعية الحكم" نفسه، وهذا ما يتجلى بالخصوص في استناد كل منهما على "المرجعية الدينية" كأساس لمشروعه في السلطة والمجتمع.

فصحيح أن العدالة والتنمية، ومن خلال أمينه العام، لا يكف عن إرسال رسائل مباشرة ومضمرة لطمأنة الملك ومحيطه، فحواها أنه لم يأتِ للمنافسة ولا الصراع على الحكم، لكن العارفين بخبايا الأمور على إدراك تام أن الرجل لا يثق في القصر، أو على الأقل لا يثق في المحيط والمؤسسات الدائرة به، والعكس صحيح طبعاً.

بل إن وزير الداخلية نفسه عبر عن ذلك صراحة عما يلج في خلد هذا التيار عندما وجه اتهامات مباشرة للحزب غداة الإعلان عن نتائج الانتخابات في مؤتمره الصحفي، واتهمه بأنه "حزب لا يثق في الملك، ولا يثق في مؤسسات البلاد"، وهو الأمر الذي نظن أن ما كان سيتم لولا الحصول على ضوء أخضر من أطراف عليا.

يمكن القول إن بنكيران وحزبه تفوقا على المخزن خلال الجولة الأولى، فقد يكون إقناع الأخير بعدم توظيف "اللعب الخشن"، والحرص على إبقاء اللعب داخل إطار قواعد الممارسة الديمقراطية إنجازاً في حد ذاته، خاصة أن تراجع الإسلاميين في الدول التي عرفت ثورات شعبية مع عودة الأنظمة البائدة عبر الثورات المضادة، والتدخل الخارجي خاصة من بعض الأنظمة الخليجية بالخصوص، ممن تكن عداء مبدئياً لأي تجربة من هذا النوع في المنطقة، ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن هذه الفكرة لم تخالج أو تطرح بين مختلف اللقاءات التي عقدها الملك مع نظرائه من الخليجيين، وخصوصاً من دولتي الإمارات والمملكة العربية السعودية المعروفتين بتجاربهما في دعم الثورات المضادة ومحاربة التجارب الديمقراطية الوليدة.

هذا السيناريو، وإن كان مطروحاً بقوة في وقت من الأوقات، إلا أن نباهة وتعقل النظام السياسي في المغرب مكنت البلد من تجنب الأسوأ، فالقصر على اعتباره لا يزال هو المسيطر والضابط لكل الأمور في الدولة، وبالتالي فلم يغامر بالقيام بهذه الخطوة المحفوفة جداً بالمخاطر، فدرايته الكبيرة بأصول الحكم الداخلية علمته أن اشتغال الإسلاميين تحت سلطته وضمن الإطار الذي يحدده هو نفسه، أفضل ألف مرة من لعبهم خارج ذلك الإطار.

زد على ذلك أن القصر يعرف أكثر من غيره أن إسقاط الحكومة الحالية بطريقة – ملتوية – يعني أن الشارع سيلتهب من جديد، لكن الأخطر هذه المرة أن من سيخرج للتظاهر لن يطالب بالتغيير، كما كان عليه الحال من قبل؛ حيث لم ترفع شعارات لإسقاط النظام إلا في حالات معدودة جداً، لكن هذه المرة لو تم الأمر بالشكل الذي ذكرنا.

فمن سيخرج للشارع فسيطالب بـ"التحول" بدل "التغيير"، أي بمعنى آخر وقوع أسوأ سيناريوهات النظام وما يعنيه ذلك من فقدان الثقة بأي إصلاح داخل النظام القائم، خصوصاً أن العدل والإحسان – العدو اللدود – للنظام كانت أكبر الرابحين من إدماج معارضة السابق في منظومة الحكم (اليسار، والعدالة والتنمية)؛ حيث أصبحت الآن المعارض الأقوى للنظام وهو ما سيؤهلها للعب أدوار طلائعية في المستقبل، إذ أي محاولة لاحتوائها ستعني لا محالة إرغام النظام على تقديم تنازلات "مؤلمة للغاية"، إذا ما أراد البقاء في نفس موقعه.

ما يمكن قوله الآن إن الإسلاميين تمكنوا من إنهاء جولة أولى لصالحهم، أو على الأقل الخروج بتعادل إيجابي، وذلك بالنظر إلى كل التحديات والصعوبات الكبيرة التي واجهت أول تجربة لهم في الحكم.

لكن المشكلة أن ما سيميز المرحلة المقبلة أو الجولة الثانية من اللعب أنها ستبين بشكل مدى توافق الطرفين في حالتهما العادية، أي هل سيرضى القصر بوجود طرف يشاركه نفس المرجعية التي يستند عليها في الحكم، والأهم أنه يطرح نفسه كمنافس وكتهديد حقيقي له في كسب الشارع؟

فالمؤسسة الملكية التي كانت، ولا تزال، تبني سياستها على السعي لإبراز الملك في ثوب "ملك الفقراء"، والمصلح الأول والوحيد في البلاد، مقابل حشود وجيوش من الانتهازيين والمفسدين من المسؤولين والمحيطين، كما سعى الإعلام الرسمي ومن يدور في فلكه دوماً إلى ترسيخها، خاصة لدى الفئات الشعبية من البسطاء والمهمشين، وبالتالي فهي لن تقبل بأي طرف يقوض هذه الفكرة أو ينافسه عليها.

بالمقابل على الجانب الآخر، فالعدالة والتنمية كحزب ذي قاعدة شعبية لا يستهان بها، وانطلاقاً من "الشرعية الديمقراطية" التي اكتسبها من الصناديق، فإنه سيحرص على تطبيق وعوده على اعتباره حاملاً لمشروع مختلف عن باقي الأحزاب الأخرى، فإنه بالتالي سيسعى إلى ترضية وتحقيق طموحات من صوّتوا له والمتعاطفين معه.

مما يعني أنه لم يعد مسموحاً له التذرع بخطاب المظلومية من "التحكم" ومن محيط الملك، أو حتى التذرع من قلة التجربة، أو أية ظروف أخرى، كيفما كان نوعها، كما في الولاية الأولى، على اعتبار أنه قضى ما يكفي من السنوات لمعرفة خبايا الحكم، وبالتالي فهذه الولاية هي بداية التطبيق الفعلي لبرنامج الحزب المحافظ.

من هنا إذاً فمع حصول الإسلاميين على فرصة ثانية، فمن الراجح أن تكون فصول المواجهة في الولاية القادمة أكثر حدة من الولاية الحالية، بل إن الأمر يمكن أن يوصل طموحات الطرفين إلى مرحلة الاصطدام، والذي سيبدو أنه سيكون وشيكاً، خاصة إذا ما سعى الحزب المحافظ إلى تجاوز ذلك الإطار الضيق الذي منحته إياه المؤسسة الملكية في اللعب.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد