لو تأملنا العالم اليوم، بحوافه المفرطة في البهجة والتفوق، بأوسطه الموغل في البؤس والرجعية، بأطرافه الضّالة أو بمركزه المؤمن الموِّحِد، بأجزائه الغنية أو بمعظمه المطحون، من أي زاوية شئت أن تتأمله، ستكتشف في نهاية الأمر أن منجز الإنسان فيه شيء غير جدير بالاحترام على الإطلاق.
أي فائدة للإنسان ككيان حائز على تكريم إلهي إن لم تكن منجزاته الحضارية والأخلاقية ترجمة فعلية لذلك التفضيل الذي اصطفاه وميزه عن بقية الكائنات والمخلوقات التي تشاركه الكوكب؟
ما الذي فعله البشر اليوم مهما كان نوعهم أو لونهم أو ديانتهم للبشرية؟
إنّ كل المنجزات للبشر المعاصرين تتلخص في أمرين: الاكتشافات العلمية التي سُخرت لإعادة صياغة مفهوم الإقطاع بما يتناسب مع حداثة العصر، وحلْب خيرات الأرض بصفاقة مَن يظن أن استمرارية البشرية مسألة مؤقتة ترتبط باستمراره هو في الحياة.. لم يحدث أن أوذيت البشرية من الإنسان كما آذاها الإنسان المعاصر.
كانت الطبيعة التحدي الأكبر، والقوة التي لم يتمكن الإنسان من مواجهتها بنديّة، ورغم ذلك، واجهت البشرية المعاصرة مخاطرها وكوارثها وصعوبة تطويعها لخدمة الإنسان واحتياجاته، ونجحت إلى حد بعيد في الاستعداد لكوارث الطبيعة وتجاوزها، لكنها عجزت عن مواجهة عقوق ابنها الإنسان.
لم تقتل الكوارث الطبيعية من البشر، بقدر ما فعل الإنسان.. لم تؤذِ الطبيعة الإنسان بقدر ما فعل هو بنفسه وبإخوته من بني آدم.. لم تظلم الطبيعة أو ما يسكنها من كائنات الإنسان، بقدر ما ظلم الإنسان أخاه الإنسان.
لم تُغيّب الجن والشياطين وكائنات الفضاء الافتراضية من وعي الإنسان وإدراكه، بقدر ما غيّب الإنسان عقله ووعيه هو أو سواه من البشر بهدف استغلالهم وتسخيرهم لبشر آخرين مثلهم.
كل ما أسست له الأديان أو الفلسفة والحضارات العظيمة التي صنعت للبشرية إرثاً يحترم تكريمها النوعي، بدّده الإنسان المعاصر المستلب بالحضارة المعاصرة الهشة التي لم تنجح في شيء، قدر نجاحها في تحويل الإنسان إلى مسخ.
فالفقر والقتل والحروب والإبادة العرقية، وامتهان الحقوق، والتقسيم الجائر القائم على اللون واللغة، وغيرها من المعايير المُختلة، كلها صنيعة الإنسان، وجريمته المثبتة بسبق الإصرار والترصد.
ما لم يلتهمه الفقر من كرامة الإنسان، تكفلت به أنياب الجهل فمزقته شر ممزق، وما لم تُهدره السياسة من قيمة للإنسان، تكفلت العنصرية والطائفية بإتمام الخراب فيه على الوجه الأمثل.
إن نجت فئة من فخاخ الجهل والبؤس، سقطت في مصائد الظلم والاستبداد المقنّع بمصطلحات هدفها الأول والأخير قلب الحقائق، بما يضمن استمرارية امتهان الإنسان بسلبه حقه في التكريم، وتحويله إلى مطيَّة نوعية تسير على قدمين.. وإن نجت فئة من أن تظلِم أو تُظلَم، لن تنجو من النبذ والإقصاء عن دائرة العالم المتعلم المتحضر.
مشكلة الإنسان المعاصر تتلخص في ظنّه أن تطويع الآلة لخدمته، وثورة العلوم والاتصال التي صنعها تكفي ليثبت للتاريخ أنه صنع حضارة ينافس بها حضارات الأمم السابقة.
مشكلته أنه استمرأ قلب المفاهيم، إلى درجة سمحت له بادعاء التفوّق على أسلافه الذين لم يبلغوا مبلغه من العلم، ولم يخترعوا الآلات التي اخترعها.
مأساة الإنسانية مع الإنسان المعاصر أنه أصبح واثقاً أن حضارته المصطنعة قادرة على إخفاء الانتكاسة الحضارية التي صنعتها قيَمه وأخلاقياته، كافية لرتق الشقوق التي حولت النسيج البشري المعاصر إلى كائنات مفرّغة من تفوقها النوعي الذي بُني أساساً على التكريم.
أي وهم بالحضارة يظن الإنسان المعاصر أنه صنعها، فهو في حقيقة الأمر لم يصنع سوى الخيبة، ولن يجني سوى الخسران، ومهما حاول أن يخفي تلك الحقيقة أو يزوّرها باختلاق مصطلحات جديدة تعيد صياغة جرائمه وتلبسها لبوس الحضارة، إلا أن انتكاسة الإنسانية في هذا العصر البائس ستظل شهادة تُخبر عن إنسان الألفية الثانية، وستثبت للأمم اللاحقة أنه لم يكن سوى ابن عاق للإنسانية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.