لم يتلكأ السياسيون الأتراك حتى تنتهي المحاولة الانقلابية في يوم 15 يوليو/تموز 2016، ليختاروا الانضمام للجهة التي ستحسم السلطة لصالحها، بل سارعوا إلى إدانة الانقلاب وأي تحرك يمس تجربة بلادهم الديمقراطية، حتى وإن كان هذا التحرك سيزيح خصومهم السياسيين من الحكم، وهذا الموقف عبر عنه بوضوح حزب الشعب الجمهوري المعارض، الذي يعتبر نفسه حامياً لعلمانية تركيا، ولم يكن في يوم ما على وفاق مع أردوغان وحزبه الإسلامي المرجعية، رغم ما حققاه لتركيا من تنمية وحضور إقليمي ودولي، ورغم التزامهما بالديمقراطية والتعددية.
وامتدت حالة الرفض للسطو على الإرادة الشعبية لتشمل الفنانين والمثقفين والإعلاميين الذين تفاعلوا مع المد الشعبي الجارف والرافض لهذه المحاولة الانقلابية وكانوا ملهمين له، ومن هؤلاء الممثل نجاتي شاشماز الذي يعرفه العرب جيداً من خلال مسلسل "وادي الذئاب"، والروائية إليف شافاق صاحبة رواية "قواعد العشق الأربعون" المترجمة إلى العربية.
في حالتنا العربية، وعطفاً على ما سمي ربيعاً عربياً، وما تبعه من تحولات وتفاعلات؛ تتملكنا حالة من الذهول والتبلد حين نرى كيف عجزنا عن أن نأتي فعل الأتراك ونتجنب حالة الاستقطاب والصراع بسبب التطلع للسلطة والسعي لإقصاء المخالف، والانفعالات الإيديولوجية والتطلعات الشخصية، واصطفاف العلمانيين والقوميين جنباً إلى جنب مع العسكر وقوى الثورة المضادة ليحولوا تنافسهم مع الإسلاميين إلى حرب وجودية.
جوقة الفنانين والمبدعين والأدباء والمفكرين والإعلاميين -في معظمها- لم تتخلَّ عن دورها التقليدي، والمتمثل في تبخيس الإسلاميين وكل من يلتزم بالديمقراطية والتعددية وينادي باعتبار الإرادة الشعبية سبيلاً وحيداً لحيازة السلطة وتداولها، وبالمقابل تلميع صورة المستبد ومنحه الشرعية حتى يتمكن من زمام السلطة وينصب نفسه حاكماً متغلباً؛ ويتجلى هذا في الحالة المصرية بوضوح، وكلنا نعرف كيف تنكر الطبيب والروائي المصري الشهير صاحب "عمارة يعقوبيان" والذي يختم كل مقالاته بشعار "الديمقراطية هي الحل" لشعاره هذا، وأفكاره المتضمنة في أعماله وانتقاده الشديد لنظام مبارك، وانتقل لتبرير سطو السيسي على إرادة الشعب، لا لشيء سوى لأنه سيطيح بأصحاب شعار "الإسلام هو الحل" ويفتك بهم.
أما الجيوش وأجهزة الأمن الداخلية العربية، فقد أعملت البندقية في المتظاهرين والمدافعين عن الشرعية، وأمعنت فيهم قتلاً وضرباً ورفساً وسحلاً وتعذيباً.. لأن عقيدتها القتالية والأمنية تجعل من حماية الوطن والحفاظ على أمنه وسلامة واستمرارية مؤسساته وقيمه وهويته، أمراً ثانوياً، وتوفير الحماية والبقاء للوجوه القديمة في السلطة والمناوئة للديمقراطية والحقوق والحريات أساس وجودها.
ثمة تهم لصيقة بالإسلاميين، وهي كفرهم بالديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان والقيم الكونية، وسعيهم للتفرد بالحكم والتأسيس لدولة دينية تختفي فيها كل التوجهات والآراء والعقائد المخالفة لهم. لكننا نجد أن الواقع يثبت أن خصومهم بكافة توجهاتهم، هم من تلتصق بهم هذه التهم وتصدق عليهم، حين عجزوا عن منافسة الإسلاميين في الميدان والاحتكام إلى نتائج صناديق الانتخابات، فلجأوا في مصر إلى التحالف مع العسكر وفلول النظام القديم، ولجأوا في تونس إلى الابتزاز والمقامرة باستقرار الوطن ضداً لحركة النهضة التي كانت متعقلة وتنازلت عن حقها في الحكم إعلاء لمصلحة الوطن، وتعرض حزب العدالة والتنمية في المغرب الذي يقود حكومة ائتلافية، لتحرشات ومنافسة أبعد ما تكون عن الديمقراطية من طرف القوى التي تصف نفسها بالعلمانية والتقدمية والحداثية.
تلتزم التنظيمات الإسلامية سواء كانت حركات دعوية أو ما انبثق عنها من أحزاب سياسية أو نقابات أو جمعيات أو غيرها بالديمقراطية الداخلية، فتعقد مؤتمراتها بانتظام وتتداول فيها المسؤوليات عبر الانتخاب، ولا تشهد مذابح للديمقراطية كما يحدث عند علمانيي وطننا العربي، وتلتزم أيضاً بالديمقراطية وشرف التنافس واحترام النتائج في الاستحقاقات الوطنية، وهذا ما تصدقه مشاركاتهم في الحياة السياسية بمصر والأردن والكويت وتونس والمغرب.. لكننا هنا نقصد بالضرورة حركة الإخوان المسلمين، ومن اختاروا نهج ومدرسة الإخوان، التي تسلم بالمشاركة السياسية والتنافس الانتخابي والتعددية في دولة مدنية وحتى التحالف مع العلمانيين. ولا يمكن أن ينطبق هذا على التنظيمات التي تتبنى العنف، أو الجماعات الصوفية والسلفية التي تركن لأنظمة الحكم المتسلطة المتغلبة وتمد يد الطاعة والعون لها.
إن الاستمرار في إقصاء الإسلاميين ومصادرة حقوقهم، وهم الذين يحوزون التأييد الشعبي في أي انتخابات نزيهة، قد يدفع شريحة منهم إلى تبني العنف طريقاً وحيداً للتغيير، كما هو الحال عند القاعدة، والآفة التي تتسمى بالدولة الإسلامية.
ويبقى السبيل الوحيد لتجاوز المأزق العربي هو تجسير الهوة بين مختلف الفرقاء في السياسة والانتماءات العرقية والمذهبية والدينية كما يفعل الأتراك، وكما هو الحال عندهم الآن.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.