آسف لأمي..

- اشتقت لأمي، اشتقتُ لضحكاتها ونظراتها الشّرسة التي تعني أنني مهما حاولت الهروب ستجدني وتوبخُني، كبرت يا أمي، وارتكبت أخطاءً في حقّك. أأنا من تغير؟ أم الزمان من غيرني؟ ليس بستطاعتي أن أظل بجانبك دائماً، لم أكن يوماً سبب سعادتِك، كل ما أجلبه لك كان الأحزان والذُّل، لقد أعماني الحب، أولم تنبهيني ألا أقع في غرام فتاة؟ كنت دوماً تقولين لي أعطِ نصف قلبك واترك النصف لي، خذلتك يا أُمي..

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/09 الساعة 03:29 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/09 الساعة 03:29 بتوقيت غرينتش

– عندما تتوقف عن رؤية العالم كما كنت تراه، وترى البشر يتكررون بدقة منقطعة النظير، وأن التاريخ يكشف أوراقه على طاولة الحاضر، عندما تعبر من الحياة إلى الحياة، ستعرف أن ما من شيءٍ يستحق التضحية، ثم سترى بوضوح وتفهم أخيراً أن هذا العالم لا يرحم الضعفاء.

– في زاوية غرفة ضيقة مجردة من تعابير الحياة، مهمشة الروح، جدرانها تحكي حكايات أُناس مروا منها. أجلس، أضمُّ رجلَيّ إلى صدري، مشابكاً يديَّ، وعيناي على ضوء نافذة مجهولة النحت تعيد الروح إلى المكان، أنتظر ساعة فرجي وإن لم يكن الفرج بالمعنى الحقيقي.

كم أن هذه الحياة سخيفة لدرجة الملل، الملل الذي يؤدي بك إلى عبور أنفاق كنْت تجدها بعيدة كل البعد عن حياتك، في غرفتي الحالية الليل صديقي، الحائط صديقي، الهواء المنبعث من النافذة الذي لا يحمل معه صوت صديقي، الفكرة التي تزور رأسي فجأة صديقتي، لست وحدي، كل هؤلاء أصدقائي.

تدور عجلة الحياة بنا، الحياة التي تمارس قوتها على ضعفي، وما عدت أستطيع المقاومة، الحياة التي تلقنك دروساً قاسية، والأقسى أن تبعدك عن سر سعادتك..

– اشتقت لأمي، اشتقتُ لضحكاتها ونظراتها الشّرسة التي تعني أنني مهما حاولت الهروب ستجدني وتوبخُني، كبرت يا أمي، وارتكبت أخطاءً في حقّك. أأنا من تغير؟ أم الزمان من غيرني؟ ليس بستطاعتي أن أظل بجانبك دائماً، لم أكن يوماً سبب سعادتِك، كل ما أجلبه لك كان الأحزان والذُّل، لقد أعماني الحب، أولم تنبهيني ألا أقع في غرام فتاة؟ كنت دوماً تقولين لي أعطِ نصف قلبك واترك النصف لي، خذلتك يا أُمي..

أنا الشخص الذي تركك خلف ظهره بعد حياة سعيدة، أنهيتُها بشكل تدريجِيٍّ، انشغلت بحياتي الزوجية وتركتكِ تنتظرين، كنتُ دائماً ما أتردّد في زيارتِك لكن شيئاً ما كان يمنعني كل مرة، على الأغلب شخص ما، لا أدري ما سبب كرهِها لكِ، والمقرف في الأمر يا أمي أني كنتُ أُؤيّدُها في كل ما تقول، حثالة أنا.

– من كان يقول إنني قادر على قتل إنسان وتمزيقه، لكن يا أمي كيف لي أن أجعلك تبكين وتتضرعين أمام من اعتبرتُها حبيبتي، وهي تصرخُ بوجهكِ وتبصق، تحطمتُ مرتين تمزَّق قلبي لذلك المشهد، سقَطَت رُجولتي، أصبحتُ ضعيفاً أمامكِ، لم يكن بيدي حيلة، ظننتُ أنني سأُرجِع القليل القليل من الكرامة الضائعة منكِ.

جميعكم يعرف ذلك الصف الطويل أمام المقاطعة لجلب ورقة أو لتوثيقها، تنتظر بصبر، وكلما نظرت للأمام، وجدت الصف ساكناً، وتنتظر!.. أنا في مِثل ذلك الصف الآن ولكن لغرض آخر، صف صامت، لا تسمع فيه سوى أصوات الأنفاس، شهيق ثم زفير وضرباتِ قلوب، وجوه ذابلة ماتت مئة مرة قبل الوصول إلى هنا، صف يتلاشى بسرعة البرق، خطوات إضافية وها أنا في المقدّمة، أمام شرطيين تعابير وجهيهما جِدّية، نظرتهما ثاقبة تُلهب النفوس وتضيف للمشهد قليلاً من الرعب، أعطوني ورقةً مكتوباً فيها تاريخ يدُل على الغد، الساعة 04:00 صباحاً، استوقفني الزمن، الساعة التي توقظني بِها أمي لصلاةِ الفجر، وأتكاسل، فتَتردَّدُ كل دقيقةٍ ودقيقة أمام سريري، إلى أن أقوم بعصبية.

تمنيت أن أرى وجهها للمرة الأخيرة وأُقبِّل خدها المتجعد وأشّم رائحتها الطيبة البسيطة، ستأتي، أعلم أنها ستأتي ولو كان الوقت باكراً ستأتي. أسفل الورقة مكتوب وبشكل واضح "الشنق حتى الموت"، جُف ريقي من شدَّة قسوةِ الجملة، تأخرت، فاتني قِطار الحياة، وهأنا انتظر قطار الممات، تنبهتُ أخيراً في هذه اللحظة الضائعة كحياتي، أن الأشياء مضت، والفُرص أيضاً، الناس الذين لم أتعرف عليهم، ومن المفترض أنهم أصدقاء رائعون، الأماكن الجميلة التي مررت بها، ولم أقطنها، الكلمات التي كان ينبغي التفوه بها ولم أفعل، وفجأة تمنيت أن يتأخر الموعد، صرت متعلقاً بالحياة من جهة ما، قلبي مملوء بأشياء باقية بطريقة غير كاملة وصحيحة، باقية لا لأنها لم تقدر على الخروج لا، لأنها تريد البقاء.

أريد الرجوع إلى حضنك يا أُمي، هلا طلبت لي الحارس أن يفتح الباب؟ أعدكِ لن أُعاود الكرَّة مرةً أخرى، أعدك، هيا ترجّيْه بحِيَلِك تِلك ودموع التماسيح التي تذرفينها كل ما أقع في مأزِق، بِتُّ أعلم أنها دموع حقيقة، آسف يا أمي على كل دمعة سببتها، آسف..

– حان موعدي الآن، مع بزوغ الشمس، وتعالي أصوات الأذان التي تضفي على القلب السكينة، مشهد رائع وروحاني لإسدال الستار على حياتي، غريب أمر هذا الموت يأتي على غفلة ودون استئذان إلاَّ أنني أعرف تاريخه وكيفية أخذي.

– كم أضاء وجهُك المكان يا أمي، اختفت العتمة ورائحة الموت بقدومكِ، عينايَ تخشيان النظر في وجهِك، كيف أستطيع النظر وقد أذقتكِ جرعاتٍ ليست بقليلة من الألم. ودّعيني يا سعادتي، ودِّعيني وداعاً يليق بي، ضعي رأسك على كتفي وتباكَيْ، وغطي وجهك بيديك، وشدِّي قميصي، ثم اتركيني وامضي، ولا تنسي قاضي السماء يحكم بالعدل، ليس كالقاضي الذي حكم علي بالإعدام بدون سابق إنذار ادعي لي بالغفران، ادعي لي ربَّ العالمين أن يغفر لي. سأظلُّ بِكِ يا أمي بدواخلكِ فلا تسأمي مني، آسف…

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد