الديون المغربية الخارجية مطلع القرن الـ20 وتأثيرها على تغلغل الرأسمال الفرنسي “2”

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/02 الساعة 02:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/02 الساعة 02:49 بتوقيت غرينتش

في عِزِّ الاضطراباتِ السياسية والانهيارِ الاقتصادي، سيتَفَاجأُ المغاربة بقرارِ سلطانِهم طلبَ الاقتراض من جديد، ورغم حرصِه على التمسكِ بسياسة "التوازن الدولي" التي انتهجها والدُه، والتي تَعني عدمَ الاعتمادِ على دولةٍ واحدةٍ في الاقتراض لدَرْءِ السقوط في فخ الاستعمار، إلا أنَّ مساعِيه في ذلك باءت بالفشل؛ بسبب الظروفِ الاقتصادية التي كانت تعيشها الدول الأُوروبية الكبرى في تلك الفترة، فقد كانت تعيش إسبانيا على واقعِ تَأَزُّمٍ ماليٍّ دفَعَها لاستيراد الأموال الفرنسية من البنك الباريسي.

أما ألمانيا فكانت لها طموحات بفرضِ قوتها الصناعية؛ ولذلك استثمرت كل أموالها في مشاريعها، وبالنسبة لإنجلترا فكانت تعاني هي الأخرى من مصاعب مالية خلَّفَتْها حرب "البوير" فاضطُرَّتْ هي أيضًا لاستيراد رؤوس الأموال الفرنسية لسَدِّ عجزها الذي أنتج انخفاضًا في مبادلاتها التجارية الخارجية لم تَبْقَ من حكومات أوروبا الكبرى سوى فرنسا، على عكس الدول السابقة، كانت -إمبراطورية نابليون السابقة- تتوفر على وضع مالي مريح بامتلاكها رصيدًا هائلًا من رؤوس الأموال الجاهزة للتصدير.

وبحكم أن حكومة فرنسا كان لديها مشروع وطموحات واضحة لاستعمار شمال إفريقيا، وكان العائق وراء استكمال نجاح المشروع هو منافسة بعض الدول الكبرى، مثل ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا وإسبانيا؛ لذلك وجدت الظروف ملائِمَةً للتغلغل في المغرب بعيدًا عن المنافسين، بعد. تحطم ورقة سياسة التوازن الدولي التي كانت في أيدي المخزن.

فكان أنْ أرسل السلطان عبدُالعزيز في يناير 1904 إلى فرنسا يطلب رسميًّا مساعدتها المالية؛ فوافقت الأخيرة على الطلب ومنحـته قرضًا ضخمًا بقيمة 62.5 مليون فرنك، اعْتُبِرَ آنذاك أكبرَ قرض يتَسلَّمُه المغرب، كلَّفَت الحكومةُ الفرنسيةُ كونسورتيوم بِضَمِّ بنك باريس والأراضي المنخفضة وكونتوار الخصم والقرض الصناعي والتجاري والشركة المرسيلية للقرض، ويرأسُه بنك الاتحاد الباريسي، فائدة القرض حُدِّدَتْ بـ 5 في المائة، ورَهَنَ المغربُ مقابلَه نحوَ 60 في المائة من الإيرادات الجمركية اليومية كضَمَانَةٍ؛ وبالتالي نجحت فرنسا في بداية سيطرتِها على مداخيل المغرب ومراقبةِ مراسيه وموانئه.

على عكس اتفاقيات القروض السابقة، اعْتُبِرَت اتفاقيةُ قرضِ سنة 1904م أخطر اتفاقيةٍ ماليةٍ وقَّعَتْ عليها السلطاتُ المخزنية؛ فقد تضمنت شروطًا كان لها تأثيرٌ إيجابيٌّ على المشروع الإمبريالي الفرنسي بالمغرب، وشَكَّلَتْ بدايةَ السيطرةِ على البلاد.

كان أخطر ما جاءت به الاتفاقية:
– الالتزام بالتوجهِ للبنوك الفرنسية في حالة الاقتراض مستقبلًا
– إسناد مهمة إنشاء بنك وطنيٍّ بالمغرب إلى اتحاد البنوك الفرنسية

تم تأسيسُ البنك المخزنيِّ سنة 1907م بعد مؤتمر الجزيرة الخضراء، وتمركز دوره في مَنْحِ القروض للمخزن، وتمويلِ الأشغال العمومية، والإشراف على ضرب العَمْلَةِ المغربية، وجمعِ المعادن الثمينة، ساهمَت كلُّ الدول المشاركة في المؤتمر في رأسمال البنك بنسب متفاوتة، غيرَ أنَّ حصة الأسد عادت لفرنسا كأكبرِ مستفيدٍ ومستثمِرٍ في البنك.

كانت حكومة فرنسا تتحرك بقوة في تلك الظروف لغزو الأسواق المالية المغربية، عن طريق مجموعاتها المالية التي ازداد نشاطها بالمغرب، وبدأت في تأسيس فروعها على تراب المملكة، فكانت شركة "شنايدر وشركاؤه" من أوائل المهتمين بالسوق المغربية.

كما تأسست الشركة المغربية منذ سنة 1902م، وهي شركة مالية تجارية شملت فروعُها طَنجةَ وفَاس، وكان لمندوبها بفاس السيد ج. فير حظوةٌ لدى السلطان عبدالعزيز، حتى إنه كان من أهم الوُسطاء بينه وبين البنوك الفرنسية في الحصول على القروض، وكافأه مقابل ذلك بمنحه ترخيص تنفيذ الأشغال البحرية بالدار البيضاء وآسفي.

بدَا واضحًا أن حكومة الفرنسيس نجحت في مساعيها؛ حيث ارتفعت نسبةُ مبادلاتها التجارية مع المغرب من 24 في المائة سنة 1904 إلى 38 في المائة سنة 1905، وبالتالي أصبح للمصالح الفرنسية حضورٌ قوي، وجَسَّدت هذه التحركات البدايةَ الحقيقيةَ والفعليةَ لِتَغلغُل الرأسمال الفرنسيِّ بالمغرب وسقوطِه في فخ "الحماية الفرنسية".

أمام كل ما أوردناه سابقًا في هذا المقال، نَخْلُصُ منه في الأخير إلى أن القرض الماليَّ الذي تحصل عليه المخزن سنة 1904م من البنوك الفرنسية بإشراف حكومتها كان كفيلًا بالسيطرةِ على ماليَّة المغرب وتقويةِ المصالح الفرنسية على حساب مصالحِ باقي الأوروبيين.

لقد كانت حكومةُ باريسَ ناجحةً في إستراتيجيتها عندما جَيَّشَتْ مجموعاتِها المالية العملاقةَ لغزوِ الأسواق المغربية برساميل هائلة، واستثمارها في تأسيس فروعٍ لها بالمملكة، كالشركة المغربية سنة 1902م، وهي تمثل مصالح شركة شنايدر والبنك الباريسي، ثم البنك المخزني سنة 1907م الذي استغلَّته فرنسا لإبعاد المخزن عن التحكم في سياسته المالية، دون إغفال ذكر تأسيس الشركة العامة سنة 1912م المملوكة لعائلة "آل روتشيلد" برأسمالِها الضخم ونفوذِها في العالم.

هذه الشركات الكبرى استفادت من الامتيازات الاقتصادية والمالية المغربية، مثل ضَعْفِ الضرائب والأجور والتكاليفِ الاجتماعية، وغِيابِ المراقبة الجِبَائِيَّة، وتركزت أغلبُ نشاطاتها في الاستثمارِ وتمويلِ الأشغال الكبرى بالمغرب، والاستحواذِ على أقوى القطاعات الحيوية آنذاك؛ كالسككِ الحديدية، وتوزيع الماء والكهرباء وإنتاجه، وتجميع المنتجات المحلية، والصناعات الاستخراجية، والصناعات الخفيفة والتحويلية، وإنجاز الأشغال الكبرى.

وهذا ما جعلها تحقق أرباحًا مفرطةً، كان من الصعب عليها تحصيلُها بفرنسا بسبب التنظيم العُمَّالِيِّ القائمِ هناك.

كل هذه التطورات التي أنتجتها اتفاقية قرض سنة 1904م -سواء بشكل مباشر أوغير مباشر- جعلَتْ لفرنسا نفوذًا اقتصاديًّا قويًّا بالمملكة، أصبح معها الاقتصاد المغربي تَبَعِيًّا للرأسمالية الفرنسية، وما زالت تبعات ذلك مؤثِّرَةً على السياسة المالية والاقتصادية المغربية رغم مرور أَزْيَدَ من قرن.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد