يحدث أحياناً أن نهرم فجأة، وتتحول الحياة لحمل ثقيل يشبه ثِقل مغادرة الوقت داخل زنزانة. يحدث أن تنتظر أم صغيرها الأسير وتراقب كيف يحلق عمره بعيداً عنها، تصبر على حرمانها من فرحها بطفولته وشبابه، فيتركه الموت عارياً في أشد أوقات العمر برودة.
اكتملت ملامح المأساة الفلسطينية هذا الصباح، عندما نهض الموت من خدر العتمة في سجون الاحتلال الإسرائيلي وأنهى حياة الأسير ياسر حمدوني.
أب لأربعة أطفال.. هكذا يكون شكل اليتم في فلسطين، منفذ عملية فدائية.. هكذا يكون شكل التضحية في فلسطين، محكوم بالمؤبد قضى منها 14 عاماً.. هكذا يكون شكل الصبر في فلسطين.
أسير شهيد.. هكذا يكون شكل الحزن في فلسطين.
ياسر حمدونة.. هكذا يكون شكل الوطن.
عن حزني وعجزي، لا شيء جديد أستطيع أن أخبركم به الآن، فقط هنالك اختلاف قليل في طريقة البكاء والغضب والعزلة بين شهيد وآخر، لكن يمكنني أن أخبركم بأشياء كثيرة عن هذا الشهيد الفلسطيني الذي دخل سجون الاحتلال الإسرائيلي قبل 14 عاماً محكوماً بالمؤبد، وخرج منها جثة هامدة.
سأخبركم عن الجريمة التي ارتكبت بحقة من قِبل إدارة سجن "ريمون" التي – وبحسب رواية الأسرى – ماطلت بنقله إلى المشفى، وأبقت عليه في عيادة السجن أكثر من عشرين دقيقة بعد أن تعرض للسكتة الدماغية حتى استشهد، مما يؤكد سياسة الإهمال الطبي التي تنتهجها مصلحة السجون بحق الأسرى الفلسطينيين، وخصوصاً بحق 1800 أسير مريض بينهم 120 حالة خطيرة.
ما لم نعِه حتى اللحظة أن هؤلاء الأسرى المرضى ليسوا أرقاماً وإنما حياة، في داخل كل واحد منهم أحلام يعلمون تماماً أنها لن تتحقق إلا بحريتهم، هم الذين يدركون بأن الحديث عن الأحلام لا يحققها، تماماً كما أن مجرد الحديث عن الأوطان لا يستردها.
تحدثت مع أحد أصدقاء ياسر الذين عاشوا معه في سجن شطة، كنتُ أريد أن يحدثني عن ياسر الإنسان وليس ذاك الأسير الذي ستتناول الصحف خبر وفاته مجرداً، بذكرها التفاصيل على عجلة من المساحة الصغيرة المتوفرة له فيها.
قال لي صديقه إن ياسر قتل مستوطناً إسرائيلياً في انتفاضة الأقصى وجرح الكثير منهم، فاعتقله الاحتلال الإسرائيلي عام 2003، ومنذ ذلك الحين وهو يعاني من مشكلات في القلب، حيث أجرى عملية قسطرة سابقاً، وهناك آلام في أذنه اليسرى نتيجة تعرضه للضرب على يد قوات الاحتلال، وما تبع ذلك من إهمال طبي ومماطلة في تقديم العلاج من قِبل إدارة سجون الاحتلال.
حدثني أيضاً عن بساطته في التعامل مع أصدقائه الأسرى، وحبهم له، عن التزامه وتدينه وحرصه على صوم يومي الاثنين والخميس، وما أوجع قلبي حقاً، تعلقه بأطفاله الأربعة وتأثره بهم، ولم ينسَ أن يسرد لي معاناة والدته التي كانت تذهب دائماً لوزارة الأسرى لتخبرهم بمرض ابنها علهم يفعلون له شيئاً، فيقولون لها "إشاعات يا حجة".
صدقت الإشاعات، ولم يشارك ياسر "صغار العصافير درب الرجوع لعش انتظار أمه"، صدقت الإشاعات، وهرمت أم ياسر فجأة عندما عانقت جثمانه بدلاً من معانقتها لحريته.. صدقت الإشاعات وقتلت 216 أسيراً منهم 56 استشهدوا بسبب الإهمال الطبي و8 بعد الإفراج عنهم نتيجة رواسب القهر والمرض في أجسادهم.
صدقت الإشاعات وكذبنا نحن الذين نسينا الأسرى، مررنا على قهرهم وظلمتهم، قرأنا تفاصيل موتهم وكتبنا القصص الإخبارية للأبطال الذين لم يأتِ على ذِكرهم أحد.
كذبنا نحن الذين لا نستطيع لملمة أوقاتنا من أجل ساعة تضامن معهم، بينما نهرع بالآلاف لحضور الحفلات الصاخبة في "روابي"، كذبنا بكل تلك الأيادي التي تحمل صورهم فتظهر للعالم قبلهم، وبعدم المسؤولية في المحاربة بهم ولأجلهم كل المحافل الدولية في العالم، ولا أدري كم سنكذب بعد وكم من الأرواح ستقبض تلك الإشاعات "الصادقة" عندما تصبح موتاً يقبض أنفاس الأسرى؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.