مقدمة:
عقد حزب حركة النهضة الإسلامي التونسي مؤتمره العام العاشر في الأيام ما بين 20 إلى 22 مايو/أيار 2016. وهو المؤتمر الثاني من نوعه للحزب منذ انتصار الثورة التونسية في ديسمبر/كانون الأول 2010، وإزاحة نظام بن علي في يناير/كانون الثاني 2011. كان المؤتمر السابق قد عقد في يوليو/تموز 2012، بعد ثمانية أشهر من انتخابات أكتوبر/تشرين الأول 2011 التي برز منها حزب النهضة كأكبر حزب في مجلس نواب الشعب التونسي، وقاد أول حكومة ائتلافية منتخبة في عهد ما بعد بن علي.
في عام 2012، أدرك قادة حزب النهضة أن كلاً من الدولة والحزب قد دخلا طوراً جديداً من تاريخهما، وأنه من الواجب مراجعة القضايا الجوهرية في هيكل الحزب ورؤيته. لكن طبيعة مرحلة ما بعد الثورة الانتقالية وطوارئ الوضع السياسي في البلاد أجبرت الحزب على تأجيل النظر في تلك المشكلات لمؤتمر لاحق؛ لذا، جاء المؤتمر العاشر ليكون نقطة تحول كبرى في التاريخ المضطرب للحزب.
بعد سلسلة من الاجتماعات المحلية والندوات التحضيرية في إطار الاستعداد للمؤتمر، أصدر "النهضة" وثيقة تضع الخطوط العريضة التي سيدور حولها المؤتمر، إلى جانب أشياء أخرى، تحدثت الوثيقة عن أعمدة ثلاثة تستند عليها رؤية الحزب الجديدة: 1 – القيم الوطنية للجمهورية التونسية، كما تم ذكرها في دستور ما بعد الثورة. 2 – إطار إسلامي. 3 – قيم الإنجاز البشري.
خلال الأسابيع التي سبقت المؤتمر العاشر، أعطى قادة الحزب وكوادره العليا نظرة عامة على التغييرات السياسية والأيديولوجية التي يتوقع أن يتبناها الحزب في المؤتمر في سلسلة من اللقاءات والتعليقات الصحفية. وأشاروا إلى ضرورة ابتعاد النهضة عن تراثها كحركة احتجاجية، وأن تحضر نفسها لدور جديد في قيادة الدولة، وصياغة نموذج "فكر الدولة"، عن تحديد تخصص النهضة كحزب سياسي مدني، عن الدولة التونسية والحفاظ عليها كأحد أهم أهداف حزب النهضة الجديد، وعن قطع كل الروابط الحقيقية أو المتخيلة، مع حركة الإخوان المسلمين "العالمية".
منذ أن تم تأسيسها على يد مجموعة من المفكرين والنشطاء الإسلاميين في السبعينات من القرن الماضي، وتحديداً منذ أن تم الإعلان عن وجودها علانية في 1981، كانت حركة النهضة دائماً في خانة الإسلام السياسي كحزب مرتبط بالإخوان المسلمين، منذ استهلاله، لعب النهضة دوراً هاماً في معارضة نظام بورقيبة المتزايد في سلطويته وعلمانيته الراديكالية، ولنظام بن علي الديكتاتوري؛ كونه مدافعاً مبكراً عن الديمقراطية وسط حركات التيار الإسلامي العربي السياسية، كان النهضة مؤثراً داخل عالم الإخوان المسلمين في منتصف التسعينات، مُقدِماً نموذجاً لنظام ديمقراطي ومتعدد الأحزاب، ومؤكداً حقوق المرأة في المجتمع؛ لذا، جذبت التوقعات بتغيير جذري في مشهد الحزب وروابطه الإسلامية قدراً كبيراً من الاهتمام بين الدوائر الإسلامية وغير الإسلامية في العالم العربي وسواه.
في نهاية المؤتمر العاشر، أصدر حزب النهضة بيانه المنتظر طويلاً، على الرغم من صياغته بلغة عامة ومبهمة إلى حد ما، فإن تضمينات البيان الأخير للمؤتمر جاءت بما يتفق مع التلميحات السابقة على لسان متحدثي الحزب.
جاء في نص البيان: "يؤكد هذا المؤتمر التاريخي بوضوح خياراته الاستراتيجية أن حزب حركة النهضة قد تجاوز عملياً كل المبررات التي تجعل البعض يعتبره جزءاً مما يسمى "الإسلام السياسي"، وأن هذه التسمية الشائعة لا تعبر عن حقيقة هويته الراهنة، ولا تعكس مضمون المشروع المستقبلي الذي يحمله".
ظهر التوتر المحيط ببحث النهضة عن رؤية جديدة في استخدام مصطلحات عدة لوصف هويته: كجزء من المسلمين الديمقراطيين، كحزب وطني، وكحزب ديمقراطي بمرجعية إسلامية، لكن على العكس من ذلك، تحدث البيان بجلاء عن تخصص النهضة كحزب سياسي لم يعد له علاقة بالدعوة الإسلامية، واصفاً الأمر الديني بشيء له ذاتيته الخاصة، ويجب تحريره من الأمر السياسي.
رغم كونه غير حاسم، يمكن تلخيص ظاهر موقف النهضة الجديد كما يلي: 1) لا يرى النهضة نفسه كحزب إسلامي سياسي، بل بالأحرى كحزب مدني ديمقراطي ترشده القيم الإسلامية بشكل عام. 2) النهضة حزب تونسي وطني لا يرتبط بالإخوان المسلمين ولا بأي مظلة سياسية فوق – وطنية. 3) وتبعاً لذلك، سيركز حزب النهضة جهوده في الفلك السياسي. أما الفلك الإسلامي، الذي تتورط فيه الكثير من المجموعات الإسلامية الأخرى، بما فيها الإخوان المسلمون، فيجب أن يكون مسؤولية الجهات المختصة، تحديداً وزارة الشؤون الدينية، وينبغي أن يكون مستقلاً تماماً عن التدخلات السياسية.
أثار موقف النهضة وهويته الجديدان ردود فعل متباينة، فبينما رحبت بعض الدوائر العربية والتونسية بالتغيير الجديد في هيئة الحزب، شكك آخرون في مصداقيته ووصفت الموقف الجديد بأنه محض مناورة سياسية. نشر الرئيس الانتقالي السابق للجمهورية التونسية، الدكتور المنصف المرزوقي، الذي يُعد خصماً معروفاً للاستبداد والتسلط في تونس والعالم العربي، نشر مقالة افتتاحية عبر فيها عن وجهة نظر الكثير من المراقبين العرب وغير العرب، مذكراً بزوال حركة القومية العربية، كتب المرزوقي أن انحدار الإسلام السياسي بدوره وشيك.
ما "الإسلام السياسي" تحديداً، وكيف يتغير كحركة؟ هل وصلت القوى السياسية الإسلامية التاريخية كالإخوان المسلمون إلى نهاية الطريق؟ وهل يعكس تغيير نظرة النهضة نوعاً من النضوج الفكري والسياسي أم يعكس أزمة سياسية أشد عمقاً واتساعاً في تونس والعالم العربي ككل؟
نشوء الإسلام السياسي:
بالتعريف، يهتم الإسلام السياسي بالتعبير السياسي عن الإسلام، بينما تستخدم الأدبيات عن العالم الإسلامي الحديث كلمات مثل الصحوة، محارِبة، راديكالية وأصولية لوصف الحركات الإسلامية، إلا أن القاسم المشترك بين تلك الحركات هو نظرتها السياسية، بحثهم عن السلطة في شكلها السياسي الحديث. كما تشهد ولادته مع تأسيس جماعة الإخوان المسلمين في مصر أواخر عشرينات القرن الماضي، فإن الإسلام السياسي تطور حديث، لا يمثل استمرارية صارمة للتقاليد الإسلامية ولا عودة لتلك التقاليد، تدور رؤيته بشكل كبير حول إعادة تقديم كل من التقاليد العربية والإسلامية في ضوء حديث.
ساهمت قواسم مشتركة عدة، توجد في أغلب الدول الإسلامية، في انبثاق الموجة السياسية الإسلامية والحركات السياسية التي جسدت خطابها وحملت أجندتها الواسعة دائمة التطور.
في البدء جاء تبنّي برامج التحديث واسعة النطاق من قِبَل رجال الدولة المسلمين والأنظمة الاستعمارية ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر، لم تدُر برامج التحديث تلك حول تداول السلطات، بل على العكس من ذلك، كرست تلك البرامج لتركيز السلطة. الأرض، التعليم، الهياكل الإدارية، الاقتصاد، قطاع الأوقاف الدينية، التشريع، الاتصالات، الشرطة والقضاء، كلها أصبحت تحت السيطرة المباشرة للدولة، في المجتمع المسلم التقليدي، لم تكن السلطة مركزية ولا مُركّزة. على الجانب الآخر، تغير الوضع جوهرياً في الدولة الحديثة.
من الشائع بين علماء الاجتماع والمؤرخين اليوم الاعتقاد بأن الحداثة تجربة عالمية النطاق، ساهمت فيها الشعوب الأوروبية الغريبة بشكل كبير، وبقية العالم بدرجة أقل، إلا أن هذا لا ينبغي أن يحجب حقيقة أن التحديث في العالم الإسلامي كان، في كثير من النواحي، عملية عنيفة ومدمرة.
فالانتفاضات الشعبية في السلطنة العثمانية، وإيران القاجارية، والهند البريطانية خلال القرن التاسع عشر، لم تكن من صنع متعصبين مسلمين، ولكن كانت بالأحرى تعبيراً عن الغربة والألم والغضب لدى فقدان أسباب العيش والاستقرار الاجتماعي، من وجهة نظر قطاع كبير من المثقفين المسلمين في ذلك الوقت، وكذلك من منظور أعداد كبيرة من العوام، كانت الدولة الحديثة تحيد عن التقليد الإسلامي، ويرونها طاغية وظالمة وغير عادلة، ظهرت ردود فعل مبكرة تجاه الدولة الحديثة في إسطنبول من أعضاء جهاز الدولة نفسه، الأبناء الأوفياء للخلافة العثمانية، قدمت مجموعة من الموظفين الحكوميين والمفكرين، يدعوهم مؤرخو الفترة العثمانية المتأخرة باسم "العثمانيون الشباب"، أشد نقداً للدولة الحديثة وحكامها.
في اعتراضهم على الدولة الحديثة، تحدث العثمانيون الشباب بمصطلحات العدالة والإجماع والشورى، مستدعين العلاقة التقليدية السائدة بين الدولة والمجتمع، شددت بعض كتابات العثمانيون الشباب وجهة النظر القائلة بأن الخلاص العثماني يكمن في العودة إلى الشريعة، حتى إنه بدا أن العثمانيين الشباب يكافئون بين الشريعة وبين الحق الطبيعي، كما تُصوِّره جدليات الفلاسفة الفرنسيين في القرن الثامن عشر.
يعد ذلك تطوراً هاماً في التراث الفكري للإسلام، فلأول مرة في التاريخ الإسلامي، تم فصل الشريعة وتجسيدها والنظر إليها باعتبارها هيكلاً من القواعد والقوانين، لم يُعرف هذا التصور غير المألوف للشريعة في المجتمعات الإسلامية من قبل. تقليدياً، كان للشريعة علاقة بكيف يتحدث الناس وأخلاقهم وتعاملاتهم مع بعضهم البعض، كما كانت بالمثل تتعلق بالعقود والزواج والجريمة والعقاب؛ لذا، فإن طبيعة العلاقة العضوية بين المجتمع والشريعة قد نُسيَت أو تم تجاوزها في هذا التفسير الجديد، وسيقام محلها شريعة ذات كيان منفصل كتشريع قانوني بالمفهوم الحديث، يُستَحضر ويُستَدعى ويُنفَّذ حتى بالقوة، لا من قِبَل "العلماء" ولا المجتمع، ولكن من قِبَل الدولة، سيكون هذا المفهوم من أساسيات الخطاب الإسلامي السياسي في القرن العشرين.
ثانياً، جاء زوال طبقة "العلماء"، مع دخول المؤسسات الحديثة والبيروقراطية، تراجع وتقلص دور العلماء المتغلغل تدريجياً، وحل محلها فئات أكثر نفوذاً وظهرت مجموعات اجتماعية جديدة، ومع تلك الفئات الجديدة كالمعلمين والمحامين والصحفيين وضباط الجيش وموظفي الدواوين ووكلاء الشركات الأجنبية، إلخ- ظهرت خلافات جوهرية حول الإطار المرجعي للدولة والمجتمع.
اعتنق البعض النموذج الغربي خياراً متاحاً وحيداً لمجتمعاتهم ليكتسبوا القوة الضرورية من أجل البعث والتقدم، على الجانب الآخر، كان هناك المؤمنون بأن وحدها العودة للتقاليد الإسلامية، ولعصر المجد المُتَخيل في التاريخ الإسلامي، هي الضمان لحماية الأراضي والشعوب المسلمة، مثلت تلك الاختلافات في الرأي بين الفئات الجديدة، حول اتجاه الدولة والمجتمع، القوة الدافعة خلف انبثاق الإسلام السياسي، فالغالبية العظمى من صفوف الأحزاب والمنظمات الإسلامية الحديثة هم في الواقع من خريجي المعاهد التعليمية الحديثة: أطباء ومهندسون وأخصائيو كومبيوتر.. إلخ.
ثالثاً، تعاظم سلطة الدولة في المجتمعات المسلمة الحديثة، أدت الزيادة غير المسبوقة لسلطة الدولة إلى تغيرات مهمة، فمثلاً إذا لم يتفق شخص مع النظام التعليمي القائم وأراد تغييره، أو إذا لم تعجبه الطريقة التي يدار بها الاقتصاد ورغب في إحداث تغيير ما في النظام الاقتصادي، فلا يسعه تحقيق تلك الأهداف إلا عن طريق الوصول إلى أدوات الدولة، ولهذا السبب صار الإسلام السياسي سياسياً، ولهذا السبب يريد الإسلام السياسي السلطة الكبرى، سلطة الدولة.
رابعاً، الشعور المتغلغل بأن الإسلام مُهدَّد، مع الخسارة المستمرة للأراضي الإسلامية لصالح القوى الإمبريالية التوسعية في القرن التاسع عشر، والاختراق الغربي الاقتصادي العميق للمجتمعات المسلمة، والتجاوزات التبشيرية والتعليمية الغربية، آمن المسلمون أن التهديد لا يطال فقط أسباب معيشتهم، بل أيضاً إيمانهم، جاءت دعوات البعث والإحياء الإسلامية كإحدى الإجابات على تلك التهديدات المُدركة النابعة من الهيمنة الإمبريالية وعدم قدرة الطبقات المسلمة الحاكمة على حماية أراضيها وشعوبها. في القرن العشرين، أصبح البعث والإحياء حجر الأساس للرؤية الإسلامية السياسية.
لكن الأمر الأهم في سبيل فهم تنوع القوى الإسلامية السياسية هو خصوصية الظروف التي أدت إلى نشوء كل حزب سياسي إسلامي على حدة.
مثلاً، كان ميلاد الإخوان المسلمين وثيق الارتباط بالنقاش المحتدم في مصر في عشرينات القرن العشرين حول الدستور والملك والبرلمان ومسار البلاد إلى الاستقلال السياسي، وكذلك حول هوية مصر ودور الإسلام في الحيز العام. هناك اعتقاد ذائع الانتشار بأن الإخوان المسلمين، كالحركة الشيوعية، لديهم مخطط للتوسع تنظيمياً من مصر إلى بلدان عربية أخرى. ليس هذا صحيحاً بالكلية، ففي معظم الحالات كانت جمعيات ومجموعات إسلامية محلية قد تأسست استجابة لظروف محلية ثم اختارت لاحقاً الانضمام إلى الإخوان المسلمين.
في تركيا، أطلق نجم الدين أربكان أول حزب ذي نظرة تركية إسلامية مميزة في 1970، كونه ابن الجمهورية التركية ومشروعها للعلمنة، تشكلت خلفية أربكان الإسلامية جزئياً عن طريق الصوفية النقشبندية. في شبه القارة الهندية، لا يمكن فصل نشوء "جماعتي إسلامي" عن صعود الوطنية الهندوسية وخوف الهنود المسلمين المتعمق من أن تبتلعهم الأغلبية الهندوسية. حديثاً، أُسِّس حزب الإصلاح الإسلامي في اليمن في 1990 على يد تحالف من المهنيين السنيين المتأثرين بالإخوان المسلمين وقادة القبائل الزيدية.
وكالإسلاميين في الأردن، اعتبِر حزب الإصلاح من البداية جزءاً لا يتجزأ من الميدان السياسي اليمني. في المغرب، كان حزب العدالة والتنمية، الذي جاء إلى الوجود عام 1996، نتيجة لتوافق بين مجموعة من النشطاء الإسلاميين الليبراليين وزعيم وطني محافظ متقدم في السن وشديد الولاء للعائلة المالكة.
من ناحية ظهور كل من تلك المنظمات الإسلامية الكبرى، لم يكن الإسلام السياسي ظاهرة ذات وجه واحد، فأجندات وأهداف تلك المنظمات الإسلامية قد تشكلت من خلال التجارب الخاصة لكل من الدول والشعوب المسلمة التي وجدت فيها. وبنفس القدر من الأهمية، فإن ظاهرة الإسلام السياسي ككل لم تكن متسقة على طول الخط، فتحليل الإخوان المسلمين في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين بالتأكيد لا ينطبق على ذات المنظمة في التسعينات: لقد تغيرت ليس فقط في الملامح الصغرى، ولكن أيضاً في ما يتعلق بالأساسيات الهيكلية والخطاب السياسي المميِّز.
في العشرينات وأوائل الثلاثينات من القرن الماضي، لم يكن الإخوان المسلمون بالضرورة حركة سياسية، فتورطهم في الفلك السياسي لم يبدأ في النمو إلا ابتداءً من نهاية الثلاثينات. لم تكن رؤية الإخوان المسلمين للدولة وعلاقتهم بها تحت قيادة حسن البنا كمثلها في الستينات، الفترة التي شهدت ذروة المواجهة بين الإسلام السياسي ونظام عبد الناصر القومي، العسكري إلى حد كبير. منذ أوائل التسعينات، أعلن الإخوان المسلمون التزامهم بالديمقراطية، وبالمعارضة السياسية السلمية، وبنظام حكم متعدد الأحزاب.
تلك الموضوعات، بغض النظر عن تجليها في الخمسينات والستينات من عدمه، لم تشغل من قبل موقعاً بارزاً في برنامج الإخوان المسلمين.
في باكستان ما بعد الاستقلال، امتدت "جماعتي إسلامي" من جذورها النخبوية إلى حركة شعبية، بدلاً من أن تدعو إلى تحول شامل للدولة والمجتمع، عبرت "جماعتي إسلامي" عن التزامها بالتغيير الديمقراطي، والدستور الحالي، والتعددية الحزبية.
في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انشقت مجموعة من النشطاء الشباب عن حزب الرفاه ذي الجذور الإسلامية وأطلقت حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان. أعلن الحزب نفسه علمانياً، محافظاً وديمقراطياً. في الحكم منذ 2002، حول حزب العدالة والتنمية سياسات تركيا واقتصادها من دون تقويض الأسس العلمانية للجمهورية التركية.
ذلك لماذا يجب النظر إلى الإسلام السياسي كظاهرة مستمرة التطور، ليس من الواضح بعد إلامَ ستنتهي المنظمات السياسية الإسلامية، المؤكد هو أن الطريقة التي تتحرك بها الموجة الإسلامية السياسية المصرية لن تكون بالضرورة كمثيلاتها في باكستان أو إندونيسيا.
مستقبل الإسلام السياسي:
في عام 1994، وعلى خلفية صراع داخلي دامٍ في أفغانستان أعقاب الاحتلال السوفياتي وانحلال التحول الديمقراطي في الجزائر إلى حرب أهلية، نشر العالم السياسي الفرنسي المرموق، أوليفييه روي، كتاباً بعنوان "فشل الإسلام السياسي". لعبت المجموعات الإسلامية دوراً بارزاً في الأحداث التي اجتاحت أفغانستان والجزائر مطلع التسعينات من القرن الفائت، ونُظر إلى فشل ديمقراطية الجزائر وأفغانستان ما بعد السوفيات قصيرة العمر على أنه فشل للإسلاميين.
على الرغم من وجودها، بشكل أو بآخر، منذ العشرينات، فإن الموجة الإسلامية السياسية لم تصبح قوة لا يستهان بها في المجتمع ذات الغالبية المسلمة حتى السبعينات. شهدت السبعينات انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، بروز المجاهدين الأفغان كرأس حربة للمقاومة ضد الاحتلال السوفياتي، وبداية صعود الإخوان المسلمون كحركة شعبية في مصر. رد الفعل العنيف أحياناً تجاه الحركات الإسلامية السياسية في الثمانينات والتسعينات، بالإضافة إلى عدم قدرة الإسلاميين على فهم طبيعة الدولة الحديثة، خلقاً حالة من التشوش والارتباك بخصوص الظاهرة الإسلاموية ومسارها.
أزمة الإسلام السياسي تلك لم تكن ظاهرة في أفغانستان والجزائر فحسب، فالمعارضة الإسلامية المسلحة ضد نظام حافظ الأسد في سوريا، ونظام مبارك في مصر قد تم سحقهما بلا رحمة. في إيران، مهدت المخاطر المنبثقة عن الحرب مع العراق والمعارضة الداخلية للنظام الإسلامي الطريق للجوهر السلطوي للنظرية السياسية الشيعية الإيرانية لتسود على الآمال الثورية في نظام حكم حر وعادل. حتى في تركيا، أُزيحت الحكومة الائتلافية المنتخبة ديمقراطياً بقيادة أربكان عن السلطة من قِبَل الجيش فيما وصف بأنه "انقلاب ما بعد حداثي". وقوى "الإحياء الإسلامي" التي وُصِفت في السبعينات بأنها أهم التطورات المنبثقة في المجتمعات المسلمة، بدأت تبدو وكأنها مجرد ظاهرة عابرة.
لكن على الرغم من ذلك، فإنه في الواقع لا يوجد "نموذج مثالي" يمكن قياس المسارات الممكنة للإسلام السياسي مقارنة به.
بقدوم السنين الأولى من القرن الجديد، حقق الإسلاميون عودة واضحة، في تركيا، أدى فساد النخبة الحاكمة الفاسدة وانعدام كفاءتها اللذان هددا أسباب عيش الطبقة الوسطى وسلامة الدولة، إلى الدفع بحزب العدالة والتنمية الوليد، ذي النظرة العلمانية – الإسلامية الناعمة، إلى السلطة.
وفي معظم البلدان العربية، حيث حاولت النخبة الحاكمة الجامحة تعويض نقص شرعية أنظمتها باحتكار كلا من السلطة السياسية والثروة الوطنية وتحويل الدولة إلى أداة قمع هائلة، فقد اهترأت قوة الطبقة الوسطى السياسية. لم يكن بمقدور الأحزاب السياسية الوطنية ولا القومية العربية ولا الليبرالية تقديم أي معارضة مقبولة لهذا التحالف غير المسبوق، أو حتى التفريق بين الدولة كمؤسسة وبين النخبة الحاكمة. فقط الإسلاميون، الذين يحتون كل الطبقات، كان لهم حق الادعاء بأنهم يتحدثون باسم الشعب.
حققت جماعة الإخوان المسلمون المصرية إنجازات كبيرة في انتخابات عام 2005، على الرغم من التلاعب العنيف بالعملية الانتخابية من جانب جهاز مبارك الأمني. في السنة اللاحقة، 2006، فازت حماس بأغلبية واضحة في انتخابات الضفة الغربية وغزة بفلسطين. وتقريباً في كل بلد عربي أُقيمت فيه انتخابات على درجة من النزاهة، حقق الإسلاميون مكاسب كبيرة، ومع ذلك، استمر الارتباك حول تعبيرات التيار الرئيسي للإسلام السياسي وما يعنيه بالنسبة لبحث المسلمين عن الحرية والعدالة في العالم الحديث. مَثّل اندلاع الثورات العربية في 2011، إذن، نقطة تحول في تعريف موقف الإسلام السياسي داخل المجتمعات المسلمة.
ما من شك أن الإسلاميين، من الناحية السياسية، كانوا أكبر المستفيدين من الربيع العربي، وليس هذا بسبب أن الإسلاميين كانوا هم المؤلف الوحيد للثورات. ففي الحقيقة، لم تكن تلك الثورات من صنع مجموعة اجتماعية بعينها ولا نتيجة تخطيط أي من الأحزاب، بل كانت حركات شعبية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، عاكسة لمشاعر متعمقة بين أغلبية كبيرة من الناس أن الدولة قد فشلت، وأن النخب الحاكمة الفاسدة والعاجزة قد وجب التخلص منها. وكما بدأ الإسلاميون بالظهور كالقوة الوحيدة القادرة على مجابهة الدولة عن طريق زعزعة قبضة الحكام المتسلطة، فقد مهد الربيع العربي الطريق للصعود الحر لأحزاب الإسلام السياسي.
موجة الثورة المضادة وتداعياتها:
تأكيداً على التجربة السياسية المشتركة وعلى الروابط الوثيقة بين الشعوب العربية، هبت رياح الثورة خلال عدد من البلدان العربية في أشهر قليلة بين ديسمبر/كانون الأول 2010 وربيع 2011. أنتجت تلك التطورات تغيير في أنظمة تونس ومصر وليبيا واليمن. في المغرب، قابل ملك حكيم شعبه في منتصف الطريق، مُحققاً بعض التعديلات الدستورية الهامة ومدشناً لعهد من الانتخابات الحرة المنصفة، لكن في خلال عامين، بدا أن إنجازات الحركات الثورية العربية قد تم عكسها تماماً.
كان أحد الأسباب وراء نجاح موجة الثورة المضادة هو طبيعة الثورات العربية، فحيث كانت الحركة من أجل التغيير عربية شاملة، فقد تمت مواجهتها على مستوى عربي شامل كذلك، فالدول التي لم تمسها رياح الثورة في 2011، بالأخص المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، قامت بتعبئة نفوذها ومواردها لقهر قوى التغيير عبر المنطقة العربية. على الجانب الآخر، في الدول التي شهدت تغييراً للنظام، تُرِكت الحركة الثورية غير مكتملة، ففي معظم الحالات، لم تنجح الثورات في إزاحة النخب التقليدية الحاكمة عن مقاعد السلطة بشكل كامل، ولا استطاعت إصلاح الدولة بشكل جوهري، في النهاية، تشكل تحالف بين بعض الأنظمة العربية النافذة من جانب، وبين الطبقات التقليدية الحاكمة والدولة القديمة في البلدان الثورية من جانب آخر.
أدى هذا التحالف إلى انقلاب مضاد للثورة في مصر في يوليو/تموز 2013، واحتواء الحراك من أجل التغيير الديمقراطي في اليمن، والتشرذم السياسي واندلاع الصراع الداخلي في ليبيا، وسقوط الحكومة الائتلافية بقيادة الإسلاميين في تونس. في سوريا والعراق واليمن، كانت إيران هي التي جاءت للعب الدور المضاد للثورة، متجذراً في مقاربتها الطائفية للبلدان المجاورة، كان تبني إيران لسياسة التأييد المطلق لحلفائها في بغداد ودمشق، وكذلك الحوثيون في اليمن. وكانت النتيجة إغراق تلك البلدان الثلاث في دماء الحروب الأهلية، وتحول الكفاح السوري والعراقي واليمني ضد الاستبداد وحكم الأقلية إلى أزمة ذات أبعاد عالمية.
في نواحٍ كثيرة، ولأن الثورات العربية أطلقت صعود القوى الإسلامية السياسية، فإن موجة الثورة المضادة أصبحت حرباً ضد الإسلاميين، فأشاد عدد من الأنظمة العربية والدوائر العربية المضادة للإسلاميين بالمذبحة التي تمت في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة ضد مؤيدي الرئيس مرسي المنتخب ديمقراطياً في أغسطس/آب 2013. وأطلقت حملات ملاحقة للإسلاميين في بعض البلدان العربية، حيث أصدرت السعودية والإمارات قوائم بالمنظمات الإرهابية شملت منظمات إسلامية ديمقراطية وداعش على حد سواء، حتى إن بعض الضغوط قد مورِسَت على الحكومات الغربية لإعلان جماعة الإخوان المسلمين منظمة إرهابية.
لكن، على الرغم من ذلك، فإن هناك حدوداً لما يمكن أن تحققه حملة الثورة المضادة، ففي سياق إنهاء عملية التحول نحو الديمقراطية واستعادة الوضع الذي كان راهناً، نجحت الثورة المضادة فقط في بلاد قليلة، في بلاد أخرى، تستمر العملية الديمقراطية بدون أن تواجه عوائق لا يمكن تخطيها، كما في المغرب، أو في مناخ عام من توازن غير مؤكد للقوى، كما في تونس. وباءت كل محاولات إسقاط حكومة حزب العدالة والتنمية في تركيا بالفشل، سواء عن طريق تعبئة مجموعات المعارضة في مظاهرات بالشوارع، أو من خلال العملية الانتخابية، أو بمحاولة انقلاب عسكري. بالنسبة للوضع المعقد داخل اليمن، حيث أخذ السعوديون والإماراتيون جانب الحكومة الشرعية، لعب الإسلاميون دوراً محورياً في الحرب القائمة ضد الحوثيين الموالين لإيران، وبدرجة أكثر أهمية، في مصر واليمن وسوريا والعراق، فشلت الثورة المضادة في توفير بديل ناجح ومقنع، نظام سياسي يستجيب لآمال الناس ومطالبهم.
رغم ذلك، كان لانقلاب الأقدار السياسية الدرامي في مصر، أكبر الدول العربية، وقع مدوٍّ في المشرق بأسره، فالثورة المضادة لم تمزق العملية الديمقراطية فحسب، بل وجهت ضربة قاصمة لأكبر المجموعات الإسلامية وأكثرها نفوذاً: الإخوان المسلمون في مصر. كانت مصر، إذن، البلد الذي تجلت فيه أزمة الحراك العربي للتغيير بأوضح صورها، والتي تأثر فيها موقف الموجة الإسلام السياسية أشد التأثر. لم يمر هذا بدون ملاحظة على الإسلاميين في البلدان العربية والإسلامية الأخرى، بما فيها تونس، مهد الثورات العربية.
المعضلة التونسية:
ابتداءً من صيف 2013 وحتى الآن، تعرض حزب النهضة التونسي للضغط المستمر من جانب أحزاب علمانية، ضد – إسلامية، صغيرة، وكذلك من قِبَل الدوائر الأكثر ثقلاً والتي تنتمي للنظام القديم والنخب الحاكمة، وقد تابع قادة حزب النهضة سقوط مرسي في مصر ببالغ القلق مدركين لضعف وزن بلادهم في ميزان القوى في العالم العربي. ووسط مناخ من الانقسامات العميقة في البلاد واحتجاجات سياسية يقودها خصومهم، تخلى حزب النهضة عن حقه الديمقراطي في الحكم. تولت حكومة جديدة أغلبها تكنوقراط مقاليد الأمور في يناير 2014. ومع إعلان دستور جديد للبلاد، عُقِدت انتخابات برلمانية ورئاسية في نهاية عام 2014.
برز حزب حركة نداء تونس، الذي أسسه السياسي المخضرم قايد السبسي، جامعاً فيه ائتلافاً من عناصر من حزب بن علي المنحل، ويساريين وليبراليين متشددين، برز كأكبر حزب في البرلمان. جاء حزب النهضة ثانياً بفارق كبير، جاء نداء تونس في وقت صعوبات اقتصادية وبطالة متصاعدة، واعتبره الكثيرون عبر البلاد يدين آمنتين قادرتين على إعادة الاتصال مع دول الخليج الغنية، والمعارضة للإسلاميين، كالسعودية والإمارات، وكذلك مع أوروبا. وفي السباق الرئاسي، التزم النهضة بسياسة الامتناع التي تبناها ولم ينافس في الانتخابات، ربح السبسي الكرسي بسهولة.
على الرغم من فشل نداء تونس في تحسين الوضع الاقتصادي، وتفكك الحزب ذاته بعدها بقليل، وصل حزب النهضة إلى نتيجة أن عليه مراجعة كل من موقفه السياسي الإسلامي ومقاربته للمشهد السياسي المحلي. على الصعيد السياسي العملي، متشجعاً برحيل الكتلة العلمانية المتشددة من نداء تونس، قرر النهضة محالفة الرئيس السبسي وحزبه، لكن في بلد ذي طبقة سياسية علمانية صاخبة ومشهد فكري شديد الاستقطاب، انهال التشكيك باستمرار على النهضة بخصوص روابطه الفوق – وطنية وإيمانه وولائه للدولة التونسية، آملاً في وضع حد لما رآه الحزب جدلاً مضراً، جاء المؤتمر العام العاشر فرصة للنهضة لإعادة موضعة ذاته كحزب سياسي وطني غير إسلامي.
بالنسبة لقرار النهضة بحصر نشاطه في المجال السياسي وترك الفلك الإسلامي الثقافي والديني (الذي يوصف عادة في الدوائر الإسلامية بواجب الدعوة) للمؤسسات المختصة الأخرى، فمن الأرجح أن يكون أثره العملي ضعيفاً. في الأصل، عندما تم تقنين حزب النهضة من جانب حكومة ما بعد الثورة في 2011، مثل الحزب منظمة حركة النهضة بكاملها. وبينما آمن بعض أعضاء الحزب بأن الحركة كان يجب أن تنفصل، منذ زمن بعيد، إلى تنظيمين منفصلين، أحدهما سياسي، والآخر ديني، فإن تضمينات قرار 2011 كانت واضحة، وأن حركة النهضة بالضرورة تحورت إلى منصة سياسية حصراً، جاء المؤتمر العاشر، فقط، ليؤكد هذا القرار، هذا لا يعني أن المجال الديني سيترك ليكون بالكامل مسؤولية "العلماء" الرسميين ووزارة الشؤون الدينية فاقدة المصداقية، التابعة للدولة التونسية. ما لم تظهر مؤسسات غير رسمية، لها مصداقية، لتحمل عبء تلك المسؤوليات، فإن المجال الديني سيترك مفتوحاً للعناصر الراديكالية والمتشددة الدينية وشبه الدينية.
في النهاية، رغم كل شيء، يظل الجدل حول ما إذا كان النهضة "إسلامياً"، أو حزباً وطنياً مدنياً ذا مرجعية إسلامية، يظل أساساً ظاهرة نخبوية، تعكس ما يشغل الطبقة السياسية. تنتمي أولويات غالبية الشعب التونسي إلى فئة مختلفة بالكلية. حتى الآن، كانت سياسة التوافق عدم الاستئثار بالسلطة ناجحة، ولو نسبياً. وعلى الرغم من تمكن حزب نداء تونس من الحكومة والقصر الرئاسي، فإنه لم يظهر الميول السلطوية لنظام بن علي؛ كونه عقلانياً إلى حد بعيد في مقاربته لمشكلات البلاد المترسخة ومبرهناً على احترامه للتعددية الحزبية، دعا السبسي أخيراً إلى تشكيل حكومة ائتلاف وطني بدلاً من تلك التي يهيمن عليها نداء تونس.
رغم ذلك، يظل السؤال حول نجاعة التحول السياسي للنهضة في إنهاء الشكوك حول هويته وولائه قائماً. كما هو الحال في كل البلاد المسلمة تقريباً، فإن الانقسام بين الفئات السياسية والفكرية في تونس قديم وعميق قِدَم وعُمق عملية التحول الحداثي في القرن التاسع عشر. على الصعيد السياسي الإسلامي الأكبر، ستتباين آثار التحول السياسي للنهضة. تبدو بعض الأحزاب السياسية الإسلامية في العالم العربي مُثقلة بهويتها الإسلامية، لكن النقاش حول فصل السياسي عن الديني ما زال في مستهله.
على سبيل الخاتمة:
نادراً ما فرّق دارسو الإسلام الحديث، أو الزعماء السياسيون في كل من العالم الإسلامي أو الغربي، بين التيار الرئيسي للميول الإسلامية السياسية، كالإخوان المسلمين، وبين الهوامش الإسلامية المتطرفة، كالقاعدة. تحوُّل المجموعات الهامشية داخل الحركات السياسية الحديثة إلى العنف والتطرف وحتى أساليب الإرهاب العالمي، ليست ظاهرة غير مألوفة. فقد كان للحركات الاشتراكية والماركسية والأناركية والقومية، وما زال لبعضها حتى الآن، نصيبها من التطرف والعنف. ورغم هذا فإن الأسلوب الذي ينتهجه الهامش لا ينبغي أبدا، أن يسمح له بأن يبطل شرعية التيار الرئيسي.
على المتوسط، ستنهزم المنظمات السياسية الإسلامية العنيفة والمتطرفة. فبدون أي غطاء شعبي حقيقي، أصبحت هذه المنظمات مُقاطَعة من جانب الغالبية العظمى داخل المجتمعات المسلمة، أما التيار الإسلامي السياسي الرئيسي، الديمقراطي إلى حد كبير، فقصة أخرى.
أعجبنا ذلك أم لا، يظل الإسلام السياسي، ربما مثل القومية، تطوراً تاريخياً، إنه نتيجة لتيارات التحول في العصر الحديث، وليس مخططاً من نشطاء مسلمين ماكرين كمجموعة جنيف الروسية التي جاءت بالثورة الشيوعية. الإسلام السياسي هو بدرجة ما ظاهرة عالمية، تلمس حياة كل البلدان الإسلامية تقريباً وتؤثر على سياستها. وعلى الرغم من أن أجندتها تختلف بشكل كبير من بلد لآخر، فإنها ليست ظاهرة معزولة يمكن اجتثاثها عن طريق سياسات أمنية قمعية، ولا تصحيحها بحملات البروباغندا.
كتطور حديث، يجب أن يُنظَر إلى الإسلام السياسي كمحاولة من الوجدان الجمعي الإسلامي للتكيف مع الحداثة، وكفكرة الحداثة نفسها، فإن الإسلام السياسي، إذاً، في تطور مستمر. التعامل معه، على مستوى وطني وعالمي، سيسهم إيجاباً بالتأكيد في نتيجة تلك العملية.
يمر الكثير من البلدان المسلمة، أو يقترب من ما يسميه أنطونيو جرامشي "أزمة السلطة"، فمن خلال قاعدتها الشعبية الكبيرة، لعبت القوى السياسية الإسلامية دوراً معتبراً في إعادة تأسيس النظام وتحقيق الاستقرار، وربما ستستمر في لعب هذا الدور، وهذا لا يعني إهمال الانقسامات وعدم الإجماع الذي تعاني منه المجتمعات المسلمة. ومع ذلك، فكما عبرت القوى الإسلامية السياسية عن التزام قوي بالتعددية السياسية، فربما كان باستطاعتهم المساهمة بشكل قوي في تجديد الاتفاق وتدعيم السياسات الديمقراطية وسلطة القانون في البلاد الإسلامية.
سيُناقَش تحول إسلاميي تونس من قِبَل إسلاميين آخرين لمدة أسابيع وشهور قادمة، لكن درساً واحداً من تونس يجب ألا يمر مرور الكرام: السياسي، سواء إسلامي أو غير ذلك، لا ينبغي له أن يحمل الراية الدينية. لقد حان الوقت للمنظمات الإسلامية السياسية أن تفصل السياسة عن الدعوة، ذلك الفصل بالغ الأهمية من أجل السلامة الأخلاقية لكل من الإسلاميين والمجتمع ككل.
– هذا الموضوع مترجم عن موقع منتدى الشرق، للاطلاع على المادة الأصلية اضغط هنا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.