كيف هانت عليه نفسه ففعل ما فعل؟!
شاب في العقد الرابع، ملابسه أنيقة، شعره مصفّف بعناية، لحيته مهذّبة، وقف برهة أمام بسطةٍ لبيع الخضار داخل سوق المخيم، وكان يحمل في يده اليسرى كيساً أسود فيه بعض الأغراض، تناول خلسةً عن البسطة حبتين من الخضار، ووضعهما في كيسه وغادر، وعلى بسطةٍ أخرى، كرّر ما فعل، ونظراته تراقب في قلق واضطراب صاحب البسطة، ثم غادر السوق وفي كيسه من الخضار المسروقة ما يقدر ثمنه بدولارين أميركيين أو ثلاثة.
لا شيء يدل على أنّ هذا الشاب لص، ولا يبدو على هيئته شيء من ملامح الجنوح أو الإجرام، فقد يكون ممّن تقطعت بهم سبل الحياة الكريمة، فاضطره الجوع لسرقة بضع لقيمات يقمن صلبه، وصلب من هم دونه من عيال، أو أنّه المدفوع بالأبواب، والمنهور على الأعتاب، وممّن خانته الفرص، وصدّته الإمكانات عن كفاية ذاته، أو ممّن قطعت رواتبهم لأسباب تنظيمية، وربما هو من أولئك الذين حرموا من الوظائف لمناكفات سياسية.
لم ينبس طول مكوثه في السوق بكلمة، عدا تمتمةٍ ترتجف بها شفتاه، وعبوس لم تكسره ابتسامة عابرة، ولا انشراح يتنفس به قلبه على رسم وجهه، وكأنّه يلعن نفسه، أو يقتص منها أمام عدالةٍ أخلاقه، ويدافع عن أفعاله أمام جور الزمن، قد يكون ابن عائلة محترمة، وصاحب أخلاق حميدة، تترّفع عما يصنعه من شائن الأفعال، بالتأكيد مجرّم فعله، ومنبوذ صنيعه، فالسرقة سرقة وإن قلَّت، والتعدّي على أموال الناس كالتعدّي على أرواحهم.
لمصلحة من يجوّع شعب يرزح تحت وطأة احتلال جائر، وقد قدّم تضحياتٍ جساماً يستحق لأجلها الحياة الكريمة؟ ولماذا يضيّق عليه في رزقه، وتمنع عنه الموارد، وهو يعاند القهر منذ عقود، ويدفع بالكف العارية عن نفسه ظلم عدو متغول تتهاوى تحت بطشه الجبال الرواسي؟ وأي فخرٍ يرجوه من ألجأ الناس إلى هذا الحدّ من البؤس، حتى صار رغيف الخبز أمنية لا تتحقّق إلا بالانغماس في الشقاء العميق، والظفر بلقمة العيش ولوجاً بين ألسنة اللهب.
وهو من أقسم الأيمان المغلظة أن يرعى شؤونهم، وييّسر أمورهم ويعدل بينهم؟ وأي عذرٍ يمكن أن يسوقه من يسعون إلى تحويل غزة إلى مدينة فقراء وعاطلين عن العمل، ويمنعون عنها كل مقومات النهوض والتطوّر، ويفعلون كل ما يستطيعون لأجل تدميرها اجتماعياً واقتصادياً وتهميشها سياسياً، في وقت تتسارع فيه الوفود، وفي وضح النهار لتطبيع العلاقات مع الكيان المُغتصِب؟
لا يخفى على أحد في هذه الحقبة المتقدّمة من تاريخ القضية الفلسطينية أنّ من العرب والفلسطينيين من هم أكثر من "الإسرائيليين" عداءً وبغضاً لغزة وشعبها ومقاومتها وصمودها، ولا يَرِقّون لمعاناتها، ولا يَجزعون لضيقها، بل يتلذّذون بمأساتها ويستمتعون بأنينها، ويتواطأون مع العدو وقادته في التضييق عليها وخنقها، في حرصٍ واضحٍ منهم على تحطيمها وكسر عزيمتها.
قد يعذر لصٌّ سرق ليأكل، لكن يأبى التاريخ أن يعذر سائساً ضيّق على الناس لقهرهم، وأمعن في تجويعهم وإفقارهم، فإن كان من الناس من يرزح تحت خط الفقر، فإنّ من الساسة من يتردى تحت خط الإنسانية.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.