هناك عدة تعريفات لما يسمى بالدولة، ولعل أشهرها تعريف الفقيه الفرنسي كاري دي مالبيرج "مجموعة من الأفراد تستقر على إقليم معين تحت تنظيم خاص، يعطي جماعة معينة فيه سلطة عليها تتمتع بالأمر والإكراه"، وإذا قمنا بتطبيق هذا التعريف على الحالة السودانية، نجد أن ما قبل دخول الحكم التركي (1821م – 1883م)، أو ما يسمى حكم الخلافة العثمانية، لم يكن السودان ساعتها دولة واحدة، بل كان دولاً عديدة.
فلكل قبيلة ملكها ودولتها، بل حتى مجموع القبائل التي كانت تحت حكم مملكة سنار (1505م – 1821م)، لم يكن يجمعها رباط وطني واحد، فقد كان يجمعهم حكم السيف لا أكثر ولا أقل، وبالرغم من أن مملكة سنار كانت تعتبر أكبر الممالك في عهدها وأكثر تمدناً في إدارة الدولة من الوسط المحيط بها، فإن انتفاء الرابط القوي بين مكوناتها القبلية كان واحداً من عدة أسباب أدت في النهاية إلى سقوطها.
ما زالت القبلية في السودان تشكل معياراً للتكاتف والتعاضد، والاصطفاف خلف القيادات والزعامات القبلية، يمكن ملاحظته بشدة في أصوات المواطنين عند حدوث أي انتخابات، بل حتى الطوائف الدينية إلى زمن قريب كانت تحشد خلفها قبائل كاملة باستقطاب قياداتها فقط.
ويرجع الفضل في تجميع القبائل المختلفة وتشكيل حدود السودان الأخيرة -قبل انفصال الجنوب منه في 2011م- إلى حقبتي الحكم العثماني (1821م -1881م) والاستعمار البريطاني (1899م – 1956م)، ويمكننا أن نقول إن كل دول المنطقة من الخليج العربي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً بحدودها الحالية صناعة استعمارية كاملة الدسم، وفق مقررات اتفاقية سايكس – بيكو، والسودان ليس استثناء، ولكن الفرق الوحيد هو أن الاستعمار في حالة السودان وحَّد المجموعات العِرقية المختلفة تحت مساحة واحدة، وفي غير الحالة السودانية قسّم المستعمر مساحات كبيرة إلى قطع صغيرة.
يمكننا تعريف السودان الحديث بأنه مجموعة من القبائل والجماعات العرقية التي تقطن في مساحة محددة حكمها الاستعمار البريطاني حتى عام 1956م، وتجمع هذه المجموعة البشرية داخل السودان حكومة مركزية عاصمتها الخرطوم، ولاحقاً حددت اتفاقية نيفاشا الحدود الجديدة للسودان التي انتهت إلى خروج كتلة بشرية وجزء من مساحة السودان القديم تمت تسميته لاحقاً بدولة جنوب السودان.
القضية الأساسية ليست في ما هو الوطن؟
بل السؤال هو ماذا فعلنا بالأرض التي صارت فيما بعد وطناً لنا مقارنة بما فعله غيرنا، ففي التاريخ البشري يعتبر الوطن غير ثابت نتيجة لتوسع بعض الدول بفعل الاستيلاء أو بتقلص دول أخرى نتيجة للانشقاق، وبالرغم من الأدبيات التي تدعو للوطنية والتضحيات التي لازمت ذلك، لم يعصم ذلك كثيراً من دول المنطقة بما فيها السودان من الانشقاق الداخلي نتيجة للاختلافات العرقية في الغالب والمذهبية في أحيان أخرى.
نحتاج للتفكير مجدداً في تحديد العلاقة التي تربط المجموع السكاني الذي يقطن في المساحة الجغرافية المسماة اصطلاحاً بالوطن، ففي صراعنا نحو التقسيم للمساحة الواحدة وتكتلنا نحو قبائلنا وعرقياتنا لتحديد من هو المواطن، تطورت قوانين التجنيس في الغرب نحو منح أي شخص جنسيتها لمجرد استيفائه شروطاً محددة من أهمها المكوث لفترة معينة، وبعدها يصبح مواطناً كاملاً له كافة الحقوق والواجبات التي من أهمها حق تقرير مستقبل البلد السياسي في أي عملية انتخابية، وفي نفس الوقت ظلت مجموعات بشرية كبيرة داخل بعض البلدان العربية لا تحمل أوراق هوية بسبب عرقها.
الوطن ليس صنماً، بل هو ترابط للمصالح بين المجموعات السكانية، ويجب أن تسلك الدول التي تسعى للتحرر طريقاً واضحاً في المساواة بين المواطنين، وتعمل جاهدة على توحيد المجموعات العرقية المختلفة تحت تعريف لا يستثني أحداً بدعوى قبلية، وإلا فالوطن الذي يتغنون به اليوم سيصير أوطاناً كثيرة وصغيرة في ظل عالم متوحش لا تستطيع الدول الضعيفة فيه البقاء بلا صراع.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.