ما فتئت المجتمعات البشرية تصنع لكل عصر من العصور هالات مقدسة يحظر على الناس الاقتراب منها، أو المساس بقدسيتها المزعومة.
وينحدر أصل كلمة "تابو" من لغات سكان جزر المحيط الهادي قديماً، الذين كانوا يقدسون الأرواح مخافة ضررها، وإذا كان المعنى يتشابه في ثقافتنا العربية بمعنى "المحظورات أو المحرمات"، وذلك في القضايا الاجتماعية والدينية، فإنه يتحور في السياسة ليصبح "الخطوط الحمراء"، وكلها مفردات لمعنى واحد.
وقد صار من الطبعي (والخطأ طبيعي) أن ترى مجتمعاً يؤله حاكماً ويحرم المساس بشخصه وبسيرته، باعتباره الرئيس القائد الملهم، بطل الحرب والسلام، حامي الحمى، العبقري الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حتى يصير هو الدولة، والدولة هو، فلا ترى للمؤسسات عملاً ولا غاية سوى موافقته ونيل رضاه، ويصير محمياً من النقد، بعيداً عن السؤال، باعتباره صنفاً آخر اختاره الله للشعب، ولا راد لقضائه.
ويصير الشعب غائباً ومغيباً عن واقعه، فلا ترى سعياً لنهضة ولا حلماً باستقرار، وإنما عيش كعيش الدواب، منها ما هو مسخر للعمل والامتطاء؛ ليكدح نظير قوت يومه (القطيع)، ومنهم من يأتيه طعامه وشرابه بدون عناء؛ لأنه صار مستأنساً مطيعاً يعمل على خدمة السلطان والترفيه عنه، وتسليته كمثل (الحيوانات الأليفة)، أو طيور الزينة التي تموت إذا غادرت قفصه.
ولكل هذا كان دأب الحكام -إلا من رحم الله- اتخاذ بطانات تعينهم على ذلك حتى ينخدع الناس، ويجدوا مبرراً للخضوع الاختياري بلا منغصات ولا قلاقل وفراً للجهد والنفقات.
وصار مألوفاً، والحال هكذا، أن ترى شيوخاً وعمائم تهرول -في العلن تارة- وفي الخفاء كثيراً لتثبيط همم المنادين بالفهم وبالحرية، وبالخروج من ظلمات الجهل إلى نور اليقين، وبأحقية الإنسان في عيش كريم، وفي وطن كريم، وإلى إعمال العقل للوصول إلى المعقول، فإذا بهم يواجهون بعلماء دنيا باعوا دينهم من أجل لقيمات أو مناصب أو بلا ثمن، ليفتنوهم -كذباً وتضليلاً- بعصمة العلماء، وأنهم ورثة الأنبياء، والذي يتكلم فيهم أو عنهم بسوء إنما يأكل لحم العلماء، فهم معصومون.
وهم في حقيقة الأمر يمالئون السلطة والسلطان، وكان لزاماً أن يصير للمؤسسة الدينية هذا السياج والقدسية التي تجعل الناس تخشاها، وتسير وراء العاملين بها سير الأعمى في الفلوات، لا يجد دليلاً إلا حاديه، أينما وجهه سار بلا هدى.
ولا أدل من ذلك إلا مثال مؤسسة عريقة كالأزهر الشريف في مصر التي استطاعت مؤسسة الرئاسة خلال الثلاثين عاماً الأخيرة من القرن العشرين، وما تلاها حتى وقتنا هذا، أن تزرع فيها من منافقي العلماء وأنصافهم من يقومون نيابة عنها بتغييب العباد وتذليلهم مبتعدين عن عقيدتهم وجوهرها المتفق عليه، منصرفين إلى توافه الأمور المختلف عليها.
ومن نافلة القول أن نعرج على صمت الأزهر على الأحداث الجسيمة والظلم البين الذي يتعرض له المسلمون في مصر رجالاً ونساء، بل وقيام بعض علمائه بالتحريض العلني على القتل والتنكيل إرضاء للحاكم، أو إرضاء لنفس خبيثة أبت إلا أن تكون في معسكر الشر لهوى متبع، وإعجاب بالرأي الفاسد.
ظل الناس في حيرة من أمرهم وتردد، والأوضاع تزداد سوءاً والفقر والجهل والمرض تنهش جسد الأمة، والأخلاق الحميدة حل محلها خبيث الخلق بالقول والفعل، وأظلمت الدنيا أو كادت أمام أعين البسطاء، إلى أن أذن الله بهبوب رياح من التغيير والثورة؛ ليغير الله ما في القوم من سلبيات إلى إيجابيات، وأن يسقط المحظورات التي عاشوا دهوراً يخشون الاقتراب منها.
وهبت نسمات الربيع العربي التي فجرت طاقات وأوجدت إبداعات ثورية متعطشة للتحرر وكسرت حواجز الخوف والرهبة التي ما كان لها أن تكسر لولا زوال هذه التابوهات وغيرها، فرأينا كثيراً من المشاهير والإعلاميين والساسة الذين طالما تغنوا بحب الوطن والمواطن، وهم في الحقيقة أبواق للنظام وحاشيته، فلما جاءت الثورة إذا بهم ينقلبون على أعقابهم مدبرين، فسقطت أقنعتهم وظهرت حقيقتهم التي كانوا يخفون وانكشف زيف كلامهم وكتاباتهم وتشدقهم بالحرية ونصرة المظلوم، عند أول محك فيه نقد للحاكم الـ"تابوه".
فزاغت الأبصار وارتعشت الأيدي والأقلام، وتلعثمت الألسنة التي ظن البسطاء أنها كانت تصدح بالحق لنصرة المظلومين، فإذا بها تعرف فيهم أبواقاً صنعت تحت عين الحاكم وأجهزة مخابراته تأتمر بأمره وتنتهي بنهيه.
وإذا كان مفهوماً أن هناك نفوساً ضعيفة رعديدة جبانة، إما لخوف يستبد بها من القهر والظلم بسبب العوز (الفقر والحاجة)، فارتمت في أحضان الزبانية، أملاً في النجاة أو طمعاً في المغنم، فإنه لمن العجب أن ترى نفوساً انتكست بها الفطرة السليمة فتردت في هاوية الإسفاف والانحلال من غير مغنم أو مغرم، بل تجدهم من أشد الناس عداوة للتيار الثوري المنادي بالحرية والديمقراطية الوليدة، وتجدهم من أشد المنافحين والمدافعين عن التابوهات العظمى التي ستحميهم من خطر الرشاد والسمو والعدل والحق الذي لا يستطيعون العيش في رحابه، بعد أن اعتادوا على دنيا الضلال والدنو والظلم والباطل في كل شيء، فرضوا بالزائف الزائل بديلاً للأصيل الدائم، وقبلوا الدنية في كل شيء إلى أن لفظهم كل شيء، وصاروا في أدنى الدنى، عن هؤلاء أتحدث.. وأتعجب.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.